الأربعاء، 15 أبريل 2015



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان

الظرف المغلق قصة محمود البدوى










الظرف المغلق

     ركبت " المترو " من المحطة النهائية ، عندما كانت هناك فى الكورنيش ، وكانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساء والزحام على أشده .. والجو رغم دخول الليل ، بادى الحرارة ..
     وكان يجلس أمامى على المقعد المقابل مراهقان تبادلا السجائر بمجرد جلوسهما ، وأخذا ينفثان الدخان فى وجهى باستهتار وميوعة .. وبجوارى من ناحية الشباك ، رجل سمين الوجه ، قصير العنق ، أسمر .. شغل نفسه بالحاجات التى يحملها ، فقد كنا فى بداية الشهر .. وكان معظم الواقفين يحملون فى أيديهم أشياء .. الرجال .. والنساء .. وكانت الممرات مكتظة عن آخرها ، والأنفاس مخنوقة فى الحر الشديد ، والزحام بلغ الذروة ..
     والجو كله ، لوقفة المترو التى طالت ، يوحى بالكآبة والضجر ..
     وأخيرا تحرك المترو .. وفى محطات .. الاسعاف .. وبنك الدم .. والمحطة .. وكوبرى الليمون .. ركب ركاب جدد .. رجال ونساء بكثرة متزايدة ، وكانت تقف بجوارى فى الطرقة سيدة حشرت نفسها بين الواقفين حشرا .. ونظرت إلى وجهها ، وأشفقت عليها .. كانت على حالة شديدة من الاعياء والضيق والحيرة .. ولكن هذا كله لم يخف نضارة وجهها .. ودفعها راكب فسقط ما تحمله على أرض العربة .. فالتقطه لها ورفعته إليها .. وفى عزمى أن أعيده إلى يدها .. ولكن نظرة منها فى وقفتها التعيسة جعلتنى أبقيه فى يدى ، رغم أنى اعتدت ألا أتناول أشياء من يد السيدات قط فى مثل هذه الحالات ..
     ووجدتها بعد محطة أخرى ، وهى لاتكاد تتماسك فى وقفتها تلقى فى راحتى حقيبة اليد دون تبادل أية كلمة .. وقد أضطرت إلى هذا .. عندما انطلق المترو وأصبح يهتز .. وأصبح من العسير عليها الوقوف دون أن تقبض بيده الخالية على المقابض التى فى أعلى الكرسى ..
     وعلى التو أخذت أسائل نفسى لماذا وضعت فىّ هذه الثقة دون سائر الركاب ..؟ وأتانى الجواب سريعا ، لأنى أقرب راكب إليها والصقهم بها .. وفى مظهرى الوقار الذى لاتنفر منه النساء .. والمراهق الذى أمامى مباشرة ، والجالس فى نفس الطرقة ، يثرثر بصوت عال ، ويأتى بحركات منفرة .. ولهذا استبعدته مع أنه أقرب الناس إليها من بعدى ..
     وبالنظام والدقة والحرص .. وبكل ما اعتدته فى حياتى ، أخذت أملأ عينى من ملامح وجهها وأقيس طولها وعرضها وأعرف لون فستانها ، حتى لاتضيع منى فى زحمة الركاب .. وأعطى الحقيبة واللفة لغيرها ..
     ولما تحققت تماما من قوامها ، وهندامها ، ولون عينيها ، وتسريحة شعرها ، تركتها تستريح فى وقفتها فى المكان الملائم لها .. بعد أن كان الركاب يدفعونها بقسوة ومعها الكثيرات من النساء .. من يمين وشمال .. ثم العكس ويحدث ذلك كل ثلاث دقائق ، بترتيب ونظام كأنه مرسوم فى جدول ..
     وقد يدور سؤال جوهرى فى هذه الحالة .. لماذا لم أقف لها وأتخلى عن مكانى ..؟ والموقف الإنسانى والرجولى يتطلبان ذلك .. 
     والجواب يأتى سريعا .. ولماذا أقف لها وحدها .. وهناك خمس نسوة ، واقفات فى الطرقة ، مجاورات لى ، مضغوطات فى ذلك المكان الضيق ، ومنهن من لطعت نفسها بجانب النافذة ، ومن كانت أكبر من صاحبتى سنا .. والوضع الصحيح يقتضى اراحة المسنة أولا ..
     ولهذا كان التفضيل سيسبب المشاكل والحرج .. فقد آثرت البقاء كما أنا .. كنت فى أشد حالات التعب ، والضيق النفسى من رائحة السجائر ، ومن وقدة الحر فى الليل الصيفى الرهيب .. ومن الزحام الخانق ..
     وبعد أن غادر " المترو " محطة الدمرداش .. شعرنا بانقطاع النور عن المنطقة كلها . خيم ظلام دامس .. ولكن المترو ظل يسير بطيئا .. فحمدنا الله على ذلك ..
     وبحاستى السادسة وبسرعة ، بحثت عنها بعينى .. فوجدتها واقفة هناك ونصفها العلوى تحت باصرتى ..
     وفجأة ودون أية مقدمات شممت رائحة الدخان ، وسمعت الصراخ .. جاء الاثنان معا .. وأدركت بعد ثلاثين ثانية من التنبه التام ، أن العربة التى نركبها تحترق .. وكانت الثانية من القطار ..
     وفى لحظات انقطع التيار عن المترو .. وخيم ظلام يضل فيه البصر .. فلم يكن هناك نجم فى السماء ، ولانور فى الأرض ..
     وخرج الدخان واللهب من بطن العربة .. والصراخ من أفواه الركاب ..
     وفى دقيقة واحدة فرغت العربات كلها من القطار ..
     وخرج الركاب إلى الحصى والرمال والحلفاء والهيش على جانبى الطريق ..
     وعندى بلادة فطرية لمثل هذه الحوادث المفاجئة .. فأنا لا أروع منها .. وانما ألاقيها بأعصاب باردة .. ولهذا كنت آخر من نهض وغادر العربة .. ولم يكن ذلك عن استهتار ، ولااستهانة بالأمر .. ولكن كنت قد جربت بأن مثل هذه النيران المشتعلة ، تخمد بمجرد فصل التيار ، واهالة التراب .. ولكن العربة فى هذه الليلة اشتعلت كلها ، ولم ينفع التراب ولاانقطاع التيار ..
     وفى لحظات تنبه حسى وأنا على الأرض ، بين الحصى والرمال والهيش ، بأنى أحمل لفة وحقيبة لسيدة ، كانت منذ دقائق معى فى نفس العربة ..
     وحدقت فى الوجوه التى كانت تتحرك على الشريط إلى محطة الجامعة .. لأنها كانت أقرب محطة .. وكان شريط المترو .. هو الطريق الوحيد الصالح للسير ..
     وأخذت أتفرس فى كل وجه .. ثم بدأت أهرول ، رغم وعورة الطريق لأبلغ أول راكب .. ثم أرجع لأرد البصر وأحدق فى الظلام ..
     وكانت كل هذه المحاولات عبثا .. وقد تصورنى بعض الركاب فقدت صغيرة لى .. ونظروا إلىَّ باشفاق .. لأنى كنت أحدق بجنون فى وجه ظلمة كئيبة لاتستريح إليها عين ولاقلب ..
     وفقدت هدوئى بعد أن تسرب إلىَّ اليأس فى محطة الجامعة .. وكان فيها نفر قليل .. أما الباقون فقد تفرقوا فى كل الدروب ، ومنهم من نزل فى الظلام ليأخذ الأتوبيس القادم من نفق العباسية ..
     وتبادر إلى ذهنى أن أقترب من كل سيدة كانت فى المترو .. وأسألها أن كانت تعرف السيدة التى تركت حقيبة يدها معى .. ثم استحمقت هذا السؤال .. فماذا يكون موقفى لو قالت لى واحدة منهن أنها تعرفها ..؟ الوضع فى هذه الحالة ، يقتضى أن أسلمها الحقيبة دون مناقشة .. وهل فى هذا الدقة الواجبة والحفاظ على الأمانة ..؟
     وشعرت وأنا أبارح المحطة بغمة قبضت قلبى وعصرته ، لأنى باستسلامى المطلق ، وقبولى الحقيبة واللفة من يد هذه السيدة المجهولة ، قد سببت لها الازعاج والقلق ، وقد يجعلها الحادث الشؤم الذى وقع تفكر فى أنى هربت بالحقيبة وما معها .. فيا لسوء الطالع ..
***  
     وفى محطة السيارات أمام جامعة عين شمس .. مر أتوبيس 500 ومر آخر ، ومع أن الزمن بين الواحد والآخر قد يزيد على الأربعين دقيقة ، ولكنى لم أركب على أمل أن تأتى مثلى إلى المحطة ..
     وبلغت البيت والظلام لايزال يخيم ..
     ولما دخلت من الباب ، كانت والدتى جالسة فى الصالة وقد أضاءت شمعة ..
     ولكن لم أجلس معها وأنا داخل كعادتى ، بل اتجهت إلى غرفتى توا ..
     ولكنها استوقفتنى ..
     ـ لماذا تأخرت يا حسن .. يا ابنى ..؟
     ـ الظلام .. والمواصلات .. يا أمى ..
     ودخلت غرفتى دون أن أسمع باقى أسئلتها .. ووضعت الحقيبة واللفة فى دولابى بسرعة وأغلقت الباب .. وعدت إلى والدتى ..
     فسألتنى :
     ـ ما الذى كان معك ..؟
     ـ شغل من المكتب ..
     ـ رأيت حاجة سوداء ..!
     ـ دوسيه .. يا أمى .. دوسيه .. دوسيه ..
     ـ ومالك مكشر .. وشايل الدنيا على كتفك ..
     وشعرت بالضيق الشديد والأسف لأنى لأول مرة أخاطب والدتى بغلظة ..
     وقلت بهدوء :
     ـ سآخذ دشا .. وزكية تحضر لى العشاء ..
     ـ المية مقطوعة ! وزكية روحت .. أقوم أنا أحضر لك لقمة ..
     وأضافت وهى تنهض :
     ـ فيه ميه فى البانيو .. أغسل وجهك وتوضأ ..
     وزاد هذا من غمى ..
***  
     وأكلت ، وجلست أتحدث مع والدتى ..
     وجاء النور مع الطعام .. فشعرت ببعض الراحة ..
     ولما نهضت لأنام فى غرفتى .. كان أول شىء فعلته بعد أن أغلقت الباب هو أن أفتح الحقيبة لعلى أهتدى إلى اسمها وعنوانها .. ثم أرى ما فى اللفة ..
     وبدأت باللفة وكان فيها بلوزة صيفية على مقاسها بلون سنجابى جميل ، وقد تصورتها على صدرها .. وشعرت بهزة ..
     وأسرعت إلى الحقيبة ففتحتها وأخذت أقلب فيها .. بدقة .. كان فيها أدوات الزينة التى تحتاجها السيدات .. أدوات كاملة أنيقة .. ثم كيس جلدى أنيق أيضا وبداخله سبعة جنيهات وستة عشر قرشا .. ثم رواية " الحلم " لزولا فى طبعة صغيرة جميلة وبداخل الكتاب ظرف أزرق مغلق .. ولم يكتب عليه اسم ولاعنوان .. ولا شىء آخر ..
      ووقفت عند هذا الظرف .. فان بداخله رسالة .. رسالة على ورق خفيف ناعم .. رسالة وليس نقودا .. رسالة فلمن كتبتها ..؟ ولماذا أبقت الظرف من غير عنوان ولماذا أغلقته ..؟ هل كانت فى عجلة ..؟ هل ترددت بعد كتابة الرسالة ..؟ ولهذا لم تكتب العنوان على الظرف .. أم أن الفرصة لم تساعدها بعد كتابة الرسالة .. فوضعتها سريعا فى الظرف وتركت العنوان لتكتبه فى مكان آمن بعيدا عن كل العيون .. كطبيعة المرأة ..
     فكرت فى هذا كله ..
     وساءنى أنى لم أعثر فى داخل الحقيبة على بطاقة تدل على عنوانها ، لم أعثر اطلاقا على شىء يدل عليه ..
     وشعرت بحسرة ، وطويت الحقيبة واللفة ، ووضعتهما فى مكانهما من الدولاب ..
     وأغلقت النور ونمت وأنا أفكر فى هذه السيدة وأتمثلها بكل شكلها ، بكل جمالها وشبابها ورشاقة قوامها .. وكانت ثقتها فى مطلقة .. فيا للحظ التعس ..
***  
     فى اليوم التالى حرصت على أن أركب المترو فى نفس الميعاد علها تهتدى بغريزتها إلى ذلك .. فنلتقى فى نفس المحطة .. ولكن مر أسبوع ، وشهر كامل ، دون نتيجة ..
     وفكرت فى نشر سطرين فى الصحف .. ولكن النشر قد يسىء إليها ، وربما كانت متزوجة ، وكتمت خبر فقد الحقيبة كلية عن زوجها .. بسبب الظرف الذى تحويه الحقيبة ، وما فيه من أسرار ..
     وقد لاتكون هناك أسرار .. ولكن ما جدوى النشر واحتمال وقوعها على الصحيفة بنسبة واحد فى المليون ..
     وسواء أكان فى داخل الظرف سرها أم لم يكن .. ولكن فيه ما جعلنى أحرص على أن أقدم لها الحقيبة بنفسى ..
     ولا أدرى سبب اليقين الراسخ الذى جعلنى أعتقد بأننى سألتقى بها مهما طال الزمن ..
     ولهذا اليقين كنت أتحرك ..
     وشعرت فى الشهر التالى بلذة خفية ، وسيطرت هذه السيدة على حواسى كلها .. كأننى لم ألتق بأنثى قبلها فى حياتى ..
     فكنت أتصورها فى يقظتى وأحلامى .. وأحدق فى كل من ترتدى بلوزة قرنفلية .. كأنه لايوجد فى النساء سواها يرتدى هذه .. أو كأنها ستظل ترتديها فى الصيف والشتاء ، والصباح والمساء .. وكانت نظرة ناعسه فى عينيها .. نظرة مسترخية وهى تعطينى الحقيبة جعلتنى أتذكرها بوضوح .. وأميزها عن نظرة غيرها من النساء .. ولذلك فإن الاهتداء إليها كان فى نظرى سهلا .. حتى ولو وقفت وسط جمع من النساء وكن فى مثل سنها وشكلها ..
     وكنت أستخرجها أول ما يقع بصرى على عينيها .. يالله.. من يغفل عن هاتين العينين ..
***
     فى صباح الجمعة كنت أدخل المحلات التجارية بمصر الجديدة .. عمر أفندى .. اركو .. لعلى أهتدى إليها ..
     ثم قلت لنفسى ومن يدرينى أنها من سكان مصر الجديدة ، ربما كانت من سكان منشية البكرى .. أو كانت ضيفة على القاهرة .. ونازلة عند قريب لها من سكان هذا الخط وسافرت ..
     كل هذه الخواطر دارت برأسى ..
     ثم حدث ما جعلنى أصل إلى حالة يأس مطلق ..
     ورأيت أن أتصدق بالمبلغ الذى وجدته فى الحقيبة على إنسان أعرفه .. أما البلوزة والحقيبة نفسها فستبقيان عندى كذكرى لحادث جميل وقع فى حياتى ..
     واخترت الشيخ " شعبان " لأعطيه المبلغ ، ولكن بطريقة لاتؤذى شعوره .. وكان يصلى العصر دائما فى مسجد الحسين ، ويبقى هناك فى صحن المسجد إلى صلاة المغرب ..
     وفى هذه الفترة من السهل الالتقاء به ..
     وذهبت إلى المسجد فى صلاة العصر فلم أجده .. فجلست بجانب عمود فى الصحن أترقب الباب لعله يدخل كعادته ..
     وكان هواء العصارى لينا فى داخل المسجد .. فغفوت نصف اغفاءة .. وحلمت بالسيدة تزور الضريح مع النساء بعد الصلاة ..
     ففتحت عينى وأنا أقول هذا ليس بحلم .. انها فى الداخل قطعا .. وأسرعت إلى الضريح .. فوجدته ممتلئا بالنساء وحدهن .. وخجلت من الدخول .. وتراجعت إلى مكانى من الصحن ..
     ولما يئست من وصول الشيخ " شعبان " اتخذت سبيلى إلى الخارج وأنا أفكر فى زيارته فى يوم آخر ..
     وكان الجو فى داخل المسجد غيره فى الخارج .. كانت حرارة يوليو لافحة فى الخارج .. فملت إلى موقف الأتوبيس لأروح ..
     وانتظرت 190 لينقلنى إلى الاسعاف ، ومن هناك آخذ المترو ..
     وجاءت سيارة وكانت مزدحمة .. وخلفها أخرى فركبت الثانية .. وكان فيها مقاعد .. واندفعت كغيرى لأجلس ، وجلست بجوار سيدة ..
     وكانت هى وتبادلنا النظرات .. وأحسست بقلبى كالمطرقة .. ولكنى كدت أرقص من الفرح وأقبل كل ركاب الأتوبيس ..
     وقلت بصوت الحالم :
     ـ لقد بحثت عنك فى كل مكان .. لمدة عام ..
     ـ وأنا ..
     ـ وأخيرا التقينا ..
     ـ وأخيرا ..
     ـ الأرض كروية .. حقا ..!
     ـ هل كنت تشك فى هذا ..؟
     ـ فى الواقع كنت أشك ..!
     وضحكت بعزوبة
     وسألتها وأنا أحدق .. لم تكن بلوزنها قرنفلية فى هذه المرة .. بل كانت بيضاء بفتحة فى العنق أرتنى جيدها كله ..
     سألتها بفرحة :
     ـ هل كنت فى داخل المسجد ..؟
     ـ أجل .. ذهبت لأقرأ فيك الفاتحة ..!
     وعادت العينان الناعمتان تضحكان .. فأغمضت عينى عن هذه الفتنة ..
     واستطردت توضح سبب الزيارة لضريح الحسين ..
     ـ ابنى نجح فى الابتدائية .. فجئت لأوفى بالنذر ..
     ـ مبروك ..
     وكلمة ابنى أصابتنى بلدغ العقرب .. فتجهمت .. يا للحماقة .. هل كنت أتصور أنها غير متزوجة وخالية لى وحدى .. يا للحماقة .. وما علاقتها بى .. وخجلت من جهامتى ..
     وسألتها :
     ـ هل عرفتنى وأنا أجلس بجوارك ..؟
     ـ أجل .. وبسرعة شكلك غير مكرر ..
     ـ هل ذاهبة الآن إلى البيت ..؟
     ـ نعم .. وسأنزل فى الاسعاف لآخذ المترو ..
    ـ سأرافقك لأعرف العنوان .. وأجىء لك بالحقيبة والبلوزة الليلة ..
     ـ العنوان كان بالحقيبة ..
     ـ كيف ..؟ لقد بحثت جيدا فلم أجد شيئا ..
     ـ انه فى الظرف .. فى داخل الظرف اسمى وعنوانى ..
     ـ ولكنى لم أفتح الظرف .. وكيف أفتحه وهو لايخصنى ..؟
     ـ عرفت هذا .. وتيقنت منه ..
     ـ والآن خذى نقودك .. وقد حملتها معى لأتصدق بها ..
     وحكيت لها قصة الشيخ " شعبان " فضحكت بحرارة وهى تتناول نقودها ..
     وقلت :
     ـ سأرافقك لأعرف البيت وأجىء بالباقى الليلة ..
     ـ لاداعى للتعب .. نستطيع أن نلتقى غدا صباحا فى نهاية المترو .. أو المكان الذى تختاره ..
     ـ هل عملك قريب من التحرير ..؟
     ـ فى ميدان التحرير نفسه ..!
     ـ فى المجمع إذن ..!
     ـ فلم ترد .. وابتسمت برقة ..
     فقلت لأبعد عنها الحرج ..
     ـ إذن سنلتقى فى الساعة الثامنة إلا ربعا فى نهاية المترو .. وإذا حصلت أية ظروف طارئة ، فها هو اسمى وعنوانى لكى لانتوه عن بعض مرة أخرى ..
     وتناولت الورقة .. وقالت :
     ـ حاضر .. يا أستاذ " حسن " وسأكون هناك قبل ذلك ..
     ـ وسننزل من الأتوبيس .. ونركب مترو عبد العزيز فهمى معا ..
     ـ سنركب معا .. ولكن إذا جلست بجانبى لاتحدثنى ..!!
     ـ حاضر .. يا ستى .. حاضر ..
     يا للدنيا العجيبة ..
     وقلت وأنا استرجع فى رأسى ما جرى فى تلك الليلة :
     ـ ان ما آلمنى وترك جذوره فى نفسى ، هو أن تكونى وحدك فى تلك الليلة ، ويجعلنى سوء الحظ لاأهتدى إليك .. فأتركك للظلام ووحشة الطريق ..
     ـ لقد روعت .. وبكيت كثيرا ..
     وتفطر قلبى لما جرى لها .. وسألتها :
     ـ هل اتجهت فى تلك الليلة إلى محطة الجامعة ..؟
     ـ لا .. رجعت إلى الدمرداش .. ووقفت مع الناس فى محطة السكة الحديد ..
     ـ هذا أحسن ..
     وكنا نتحدث كأننا متعارفان من سنين طويلة ، وعجبت لذلك .. والواقع أن العام الذى مر علينا ، منذ أول لقاء ، بكل صوره وأحلامه ، نسج حولنا نسيجا قويا ، وجعل الرباط طبيعيا وفيه الفه صادقة ولهذا لم يطل عجبى ..
     وركبنا مترو عبد العزيز فهمى .. وجلسنا متجاورين .. ولكن لم نتحدث .. كما شاءت لها طبيعتها ..
***   
     وجاءت إلى نهاية المترو .. فى اليوم التالى .. وكانت فى أجمل ثيابها .. وأجمل من كل سيدة رأيتها فى حياتى .. وكان الصباح أجمل من كل صباح مشرق ..
     وأعطيتها الحقيبة والبلوزة .. وعيناها تشرقان بالدمع .. وسلمت .. ومشت ..
     ورأيتها تتخذ طريق النيل .. وبعد خطوات قليلة أخرجت الظرف ومزقته .. وألقت بقصاصاته فى دوامات الماء ..




===============================  
نشرت القصة بمجلة الثقافة ـ العدد 65 فى فبراير 1979 ـ وأعيد نشرها فى كتاب " الظرف المغلق " سنة 1980





















الشجاع

فى الساعة الخامسة من مساء يوم من أيام الإثنين .. وفى فصل الخريف .. شاهد الجالسون فى مقهى " فينوس " بشارع طلعت حرب .. قطيعا من الأغنام يتسرب من حارة جانبية ليعبر الشارع ..
وكان المنظر مثيرا .. فأدار رؤوس الجالسين فى المقهى .. والمتسكعين على أرصفة الشارع .. وعمال الدكاكين على مدى دائرة قطرها ربع فرسخ ..
وانطلقت النكات والضحكات تجلجل فى كل اتجاه ..
وكان الجو كله يساعد عليها .. ويدعو لها .. فقد كنا فى غمرة الأسبوع الأول من حرب اكتوبر .. ولا زلنا نعيش فى بهجة الانتصار ..
وظلت عيون الناس معلقة بالقطيع .. وهو يتحرك على الرصيف الضيق وملتصقة به .. وأمامها شاب سمهرى يلبس جلبابا من الكستور المخطط .. وعلى رأسه طاقية .. وبيده عصا يلوح بها على الغنم .. ووراءه صبى يهش بعصاه فوق ظهورها .. ويمنعها من الانفلات .. ويحجزها عن التسرب ..
وكانت الأغنام تتدافع وتتداخل بأجسامها وتتقارب برؤوسها .. فلما نزلت من فوق الرصيف وأصبحت فى عرض الشارع لتعبره .. أنفرجت وتفسخت ..
ولكن عسكرى المرور أبصر بها فى لمح البصر .. فترك السيارات تتخبط فى بعض كالمألوف .. وجرى نحوها وردها بعنف .. فتراجعت من حيث جاءت ووراءها اللعنات من فم العسكرى يصيبها كطلقات المدفع على سائق القطيع ..
واستراح الناس للنظام .. وفرحوا بالحركة التى قام بها العسكرى فى جو عمت فيه الفوضى فى كل مكان ..
ولكن قبل أن تنقضى أرباع الساعة شاهد الناس القطيع يظهر من الحارة الجانبية مرة أخرى .. ويتبختر على رصيف الشارع .. ثم يعبره إلى الجانب الآخر .. والشاب على رأسه يهز عصاه .. كأنه يلعب لعبة العصا فى دائرة السيرك ..
وتصور الناس أن القطيع مر فى غفلة من العسكرى .. ولكنهم شاهدوا العسكرى فى وسط الشارع يرى بعينيه .. ويلوح بذراعه فعجبوا .. ولكن لم يطل العجب .. فقد رآه بعض المارة وهو يترك موقعه إلى زاوية من الحارة الضيقة .. وراعى القطيع يحاوره فى همس ..
ومرت الأغنام .. وعبرت الشارع التاريخى الذى سارت فيه المظاهرات الوطنية الضخمة .. وهى تهتف بسقوط الاستعمار الإنجليزى ..
وعبرت الشارع الذى تتبختر فيه أجمل النساء وهن يستعرضن أجمل الأزياء ..
وعبرت الشارع الصاخب بالملاهى .. والذى يؤدى إلى شارع قصر النيل .. حى المال والبنوك ..
وكان الشاب الذى على رأس القطيع على يقين تماما بأنه سيعبر بقطيعه كل الشوارع والميادين .. ما دام يضع يده فى جيبه ويدفع ..
كان حاويا .. وقد خبر طباع الناس وهو صبى .. فلما بلغ أشده كان رأسه ممتلئا بالتجارب الحية ..
وأرخى عصاه للقطيع .. وهو يتهادى فى حى معروف ..
***
أما العسكرى فقد شعر بعد أن وضع الورقة فى جيب بنطلونه بفرحة .. ومع أنه مد يده وأخذ مثلها كثيرا .. ولكنه فى هذه المرة شعر بسرور هز أعماقه .. فنصب قامته فى الشارع وازداد صلفه ..
والورقة ستجعله يشترى سكرا .. أو شايا .. و طعاما .. حتى ولو لم يقبض غيرها هذا المساء ..
وانتهت نوبته فى الليل .. والورقة لا تزال فى جيبه .. لم يتناول غيرها .. وفكر فى الذى يشتريه قبل أن يذهب إلى البيت ..
***
لقد بدأ حياته فى مرور الصعيد .. دير مواس .. ملوى .. أبو قرقاص .. بنى مزار .. مغاغة .. العياط .. الصف .. مزغونة .. حيث عربات الفورد القديمة تحمل بعشرين راكبا على الرفارف ..
وبدأ يأخذ بالخمسة قروش .. وكانت الحصيلة فى تزيد فى اليوم الواحد على الجنيهين والثلاثة .. فى أيام الرخص .. ومع هذا فهو لا يدرى أين ذهبت كل هذه النقود ..
***
كان العسكرى يسكن فى امبابة .. وفكر فى أن يشترى بالورقة شيئا قبل أن يركب الأتوبيس .. ولكنه عدل عن ذلك ورأى أن يكون الشراء من البقال الذى فى حيه .. والذى اعتاد أن يتعامل معه لأن الأتوبيسات فى هذه الساعة شديدة الزحام .. وركوبه من غير حمل فى يده .. أسهل من ركوبه بحمل ..
وفى لحظة تفكيره هذه مر بجواره " التروللى " وتوقف فركبه دون شعور .. وجد رجليه تدفعانه إلى داخله ..
وكان " التروللى " مزدحما كالعادة .. فوقف مع الواقفين .. مضغوطا بين الركاب ..
وفى حى بولاق أخذ " التروللى " يتوقف كثيرا واشتد الضغط .. وكانت السنجة تتحول عن مكانها من السلك الكهربائى .. تبعا لحركة المرور وسير العربات .. فيتوقف " التروللى " كأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة .. والركاب صامتون .. وقد اعتادوا على مثل هذه الأشياء وتبلد حسهم بتكرارها ..
وفى كل موقف .. كان يصعد ركاب جدد ولا ينزل أحد ..
بعد كوبرى الزمالك استدار " التروللى " إلى اليمين وأصبح على طريق النيل ..
وقبل " الكيت كات " وكان بعض الركاب قد نزلوا ووضحت الرؤية .. لمح الجالسون نصلا يلمع فى جوف العربة .. وشابا مفتول الساعد يتقدم نحو الركاب ليسحب ما فى جيوبهم ..
وحدث اضطراب .. وفزع .. وصراخ ..
وكان النشال يمد يده .. ولا يجد مقاومة من راكب واحد .. وكان فى استطاعة الركاب التغلب عليه وسحقه هو وأعوانه .. ولكنهم ضعفوا واستكانوا .. وظهر الهوان على وجوههم وسحنهم ..
ثم برز شىء غريب وسط هذا الجبن الشامل .. فعندما مد النشال يده نحو أول سيدة من الركاب .. سمع صوتا هادئا يقول له :
ـ أترك السيدة .. ولا تلمسها ..
واستدار النشال باستخفاف وسأل بسخرية :
ـ لماذا .. يا جنرال ..؟
ـ لا تلمسها ولا تلمس أية امرأة ..
وسمعت قهقهة عالية ..
وتقدم النشال نحو السيدة .. فاعترضه الرجل الشجاع .. وعلى وجهه الغضب ..
ولما رآه النشال يعترضه أشهر المطواة سريعا فى وجه الرجل .. وتلقى الرجل الضربة .. ولكنه بحركة سريعة أوقع النشال على الأرض وأسرع زميلا النشال لنجدته ..
واشتبك المحاصرون داخل " التروللى " فى عراك دموى رغم أنوفهم ..
وسقط مجهول غارقا فى دمه .. وفر الركاب ..
ونزل العسكرى من " التروللى " مع أول النازلين قبل أن يلتحم فى المعركة ..
وعند بقال الحى .. وضع يده فى جيبه .. فلم يجد الورقة .. فشعر بغيظ شديد .. وكاد من فرط الغيظ أن يمزق جيوبه ..
======================== 
نشرت القصة فى مجلة الثقافة بالعدد 48 عدد سبتمبر 1977 وأعيد نشرها فى كتاب " الظرف المغلق " سنة 1980
========================
      



الحارس


     غادرنا " منفلوط " فى اليوم التاسع من اكتوبر فى جــو مشحـون بالحــرب فى كل مكان . وكانت الأنوار منطفئة فى المحطة ، وفى المدينة ، ولكن القمر كان طالعا ونوره يفرش على البيوت والمزارع وبساتين النخيل .
     وكانت الريح رخاء ، والليل صحوا ، والرؤية واضحة إلى المدى البعيد ، ورغم الاظلام فى المحطة ، وفى البيوت ، ولكنا لم نسمع صوت قذائف على الاطلاق .
     وكان الناس يقومون بأعمالهم العادية فى هدوء كأن الحرب لم تشتعل منذ ثلاثة أيام ، ولكن الفرحة كانت بادية على الوجوه ، وفى سلوك الأفراد وتعاملهم ، فقد هزتهم موجة الانتصار وأطلقت العنان لمشاعرهم المحبوسة .
     وكضابط أمن فى المنطقة فإنى أقرر أنه لم تقع منذ ثلاثة أيام حادثة واحدة سجلها دفتر الأحوال فى المركز .. سوى حادثة سقوط " لينا عازر " بين المزارع .. رفيقتى فى هذا السفر الليلى .. فى العربة الخلفية من قطار الركاب رقم 777 ، فقد فاتنا الاكسبريس لخطىء فى التقدير . فكان لابد من السفر فى الليل ، فى مكان منفرد ، وبعيدا عن الركاب .. ووقع الاختيار على ديوان صغير مخصص للسيدات .. ويحتوى على كنبة جلدية واحدة ، ويقع فى نهاية صف الدواوين فى آخر عربة فى القطار .
     وكانت العربة بأجمل صفاتها متهالكة ، ومفصلاتها تزعق ، وزجاج نوافذها نصف مكسور .. وعجلاتها تدوى على القضبان كالطاحون القديمة ..
     ولكن الديوان الصغير الذى أجلست فيه " لينا " كان بابه صالحـا للعمـل .. والزجاج فى النافذة والباب كانا سليمين .
     وكحارس لاتفوته ثغرة أخذت على ضوء القمر ، وضوء البطارية التى معى ، أدور بعينى فى هذا الجزء الخلفى من العربة بعد أن أودعت " لينا " فى داخل الديوان .. وشعرت بالراحة لأنى سأستريح من فضول الناس ، إذ لم يكن فى الدواوين الملاصقة لنا مباشرة ركاب على الاطلاق .. وكان وجودهم سيسبب لى مضايقات كثيرة ، لأن " لينا " لاتزال بملابسها العسكرية التى سقطت بها ..
     وكنت قد أنزلت خشب النافذة عندما كان القطار واقفا فى المحطة ، فلما تحرك خالفت التعليمات ورفعته لأن الاظلام كان تاما فى القطار كله .. ورأيت ألا نختنق فى هذا الظلام وأن أدخل قليلا من ضـوء القمر من خلال الزجاج .. لأراقب الأسيرة وأراها وترانى ..
     وأخذت أتطلع فى الضوء الطبيعى إلى وجهها ، وكانت قد شربت دموعها واستفاقت من الفزع الذى أعقب السقوط .. واطمأنت على حياتها ، وعلى وجودها معى كحارس لها .. فقد عاملتها بالحسنى من أول لحظة .. ومنعت عنها سباب النساء ، ولعنة جنسها ، وغضب الجموع التى أحاطت بها ..
     فإن شخصا يسقط فى المزارع وبين الفلاحين بعد أن كان يحلق ليرميهم بقنابل الدمار له فى نظرهم حكم واحد .. الموت .. وقد نجيتها من الموت .. وبسرعة نقلناها من المركز إلى القطار ،  وأصبحـت مسـؤلا عنهـا وحدى حتى أصل بها إلى المكان المعين لنا . وحدث كل شىء بسرعة رهيـبة حتى أننى لم استرد أنفاسى .
     وكنت فى أشد حـالات التعب إذ لم أنم منذ يومين ، وخشيت أن يغلبنى النعاس فتهرب ، كنت فى خوف موصول من حدوث ذلك .. ولهذا أخذت أفتح عينى جيدا .. وشعرت بأنى فى حاجة شديدة إلى فنجان من القهوة أو الشاى ، ولكن ساءنى أن القطار ليس به مقصف ثابت ولا متنقل كما نشاهد فى القطارات الأخرى .
     وكانت " لينا " بجانبى من الداخل ، وكنت أرى جانب جيدها .. ورأسها المنحنى المستدير قليلا إلى النافذة ، وتبدو صامتة وحزينة ، ولا يبدو عليها التفكير فيما يدور بخلدى .
     ولكن من الذى يستطيع أن يتبين من ملامح المرأة ماتبطن من خفايا نفسها ..
     كانت ترتدى ثوبا أخضر من الكتان ويبدو ضاغطا فوق وركيها وبروز صدرها ..
        ورجعت إليها انوثتها ، فأخذت تسوى شعرها ، وتصـلح من ردائها العسكرى .. فعندما هوت وجرت لما طاردها الفلاحون تعثرت وسقطت على الأرض بين الزراعات المروية فاتسخت حلتها ، وعلق بها التراب والطين .. فخلعت سترتها وأخذت تنظفها .. وبدا لحمهـا من تحـت القميـص الأخضـر متسخا كأن به آثارجرح ..
     فسألتها :
     ـ هل بجسمك رضوض ..؟
     ـ أبدا .. التوى قدمى قليلا وأنا ساقطة ..
     ـ سنعالج هذا عندما نصل ..
     ـ نصل إلى أين ..؟
     ـ نصـل إلى مدينـة جميـلة .. وستجدين رفاقك هناك فى انتظارك ..
     وبدا عليها السهوم .. ولعلها تذكرت ما فعلوه هم بالأسرى المصريين فى الحرب الماضية .
     وسألتها :
     ـ أى مدينة فى مصر كنت تودين تدميرها ..؟
     فشحب وجهها :
     ـ لم نخرج لندمر .. كانت طائراتنا استطلاعية ..
     ـ لماذا سقطت ..؟
     ـ أصيبت بقذيفة ..
     ـ هل ولدت فى إسرائيل ..؟
     ـ ولدت فى رومانيا ..
      شاهدت فى مجلة أجنبية منذ اسبوع فقط صورة لأسرة رومانية تجلس فى حديقة بين الورود والرياحين ، أسرة وديعة مسالمة .. فلماذا تختلفون أنتم عن جميع أجناس البشر وتريدون تخريب العالم ..
      ـ لقد قلت أن الطائرة استطلاعية وأنا لم أسبب الضرر لأحد ..
     ـ بعد طائرة الاستطلاع .. تأتى طائرة القنابل ..
     ـ انها الحرب ..
     ـ أجل انها الحرب .. ولا سلام فى هذه الأرض مادمتم تشنون الحروب على ظهرها .. هذا هو رأيى ..    
      كان الحرز الذى وضعنا فيه أشياءها لا يزال بجـانبى فألصقـته بالمسند واتكأت عليه .. وابتـعدت عنها حتى أصبحت قريبا من باب الديوان لأفسح لها مكانا لتنام ..
      وقلت لها :
     ـ نامى ساعة أو ساعتين .. فالرحلة طويلة ..
     ـ إنى جائعة .. ولا أستطيع النوم وأنا جائعة ..
      ورأيت أن أشترى لها طعاما فى المحطة التالية ، أو فى "ديروط"  ..
      وأخذ هواء الليل يترطب ، ومع سرعة القطار .. اشتد مرور الهواء ، فبدأت الأتربة تتطاير فى وجهينا كلما دخلنا فى المحطات الصغيرة .. فأغلقت زجاج النافذة ..
      اقتربنا من " القوصية " .. وفكرت أن أجد فيها طعاما .. واشتريت الطعام الذى يكفينا .
       ولما تحرك القطار سألتنى وهى تأكل :
     ـ من الذى علمك العبرية .. بهذه الطلاقة ..؟
     ـ كنت أسكن فى حارة عندنا اسمها حارة اليهود ..!
      وافترت شفتاها عن ابتسامة باهتة ..
     ولأول مرة أرى ابتسامة على وجهها ..
     ـ ولهذا وقع عليك الاختيار لترافقنى ..؟
     ـ أجل .. فقد كان هذا من سوء حظى ..
     ـ لماذا .. اننى لم أسبب لك أية متاعب ..؟
     ـ لقد طلبونى على عجل وأنا مريض .. ولم أذق للنوم طعما منذ يومين .. وقد أكون محموما ..
     ـ لماذا لاتستريح الآن وتأخذ كفايتك من النوم ..
     ورفعت بصرى إليها ولم أعقب ..
         وتكورت هى بجانبى بعد أن تعشت ، واضعة رجليها تحت فخذيها .. وأغمضت عينيها .. وإن كنت على يقين بأنها تنام بإحدى عينيها فقط ، وتظل الثانية مفتوحة .. !
     وفى محطة " ديروط " ناولتها زجاجة من العصير ، وكنت أود أن أشرب القهوة .. ولكنى لم أجدها فى داخل المحطة ..
     وكان السكون شاملا ، والظلام تاما ، وحالة الحرب بادية هنا بالدرجة القصوى ، وكانت ترعة الابراهيمية على شمالنا .. تبدو مياهها هادئة .. وعلى الأفق الغربى كان القمر يلتهب وكان لون أخضر يضرب إلى السواد يغطى المزارع ، أما المدينة فكانت محتجبة فى الظلمة وساكنة ..  
     وساعدنا السكون الشامل على أن نسمع صوت الراديو ، وكان يذيع انتصارات الجيش المصرى على طول جبهة سيناء .
      وقرأت "لينا" الانتصار على وجهى فامتعضت وبدا عليها الذبول لقد أطلق الراديو مشاعر كانت فى عـداء صريح مع عقلها وتفكيرها .
      كانت تتوقع انتصار جيشهم ولم تكن تتوقع هزيمة كهذه أبدا وأصيبت بخيبة أمل مرة .. وغدت سحنتها مخيفة ، ضاعت منها كل علائم الأنثى . وخفضت رأسها وراحت تنظر إلى أرضية العربة .. وجعلنى هذا أراقبها بحذر ولا تغفل عينى عنها لحظة .
     وخطر فى ذهنى خاطر .. أن أحـدا من رجـال الأمن لم يفتشها فى المركز .. واستدعى لتفتيشها مدرسة فى المنطقة .. فتشـتها فى غرفة مغلقة .. ولكن هل فتشتها هذه المدرسة كما يجب ..
        ونظرت إليها وكانت لاتزال متجهمة وقلت بهدوء :
     ـ قفى ..
     ـ لماذا ..؟
     ـ أريد تفتيشك ..
     وارتعش بدنها ..
     ـ لقـد فتشـت فى المركـز .. والأشيـاء كلها معك فى الحرز ..
     ـ ولكنى سأفتشك مرة أخرى ..
     ـ تفضل ..
      ووقفت وفتشتها بدقة متناهية ، وهى تنظر إلىّ بدلال ..
        وعجبت وأنا أضع يدى على لحمها من كونى لم أشعر بأية عاطفة نحوها .. وهى رشيقة الجسم وتعد جميلة فى النساء .. كانت تقاطيع جسدها بارزة من خلال القماش الكتانى المشدود ، وكانت يداى تتحركان على تمثال من الشمع الجامد .. وربما كانت تتصور أننى أتلذذ من هذه الحركة لأنى فتشت الجيوب وقلبتها .. ولمست صدرها وفخذيها ، تحـت القميص وفوقه ، ربما كانت تتصور أن فى الأمر متـعة لأنها طالـت .. ولكن إحساسى كرجل كان يغطيه دخان الحرب ويغلفه ، وكنت جامدا وأى ضعف من جانبى معناه ضياعى كرجل ..
     وكانت هذه اللحظة هى سلاحها الوحيد الذى تحمله ضدى .. فلما رأت جمودى .. تحولت سحنتها فجأة من دلال الأنثى الناعم إلى سحنة نمرة .
     وعادت وقد غلب عليها الارتباك والهزيمة معا فجلست ثم تكورت فى مكانها .. وبعد منتصف الليل وفى الساعات التى اعتاد أن ينام فيها الناس بقيت مستيقظا ، وفى أشد حالات الانتباه واليقظة وأصبحت أغالب النوم بصعوبة بالغة .. فقد كنت فى أشد حالات التعب والارهاق البدنى وأفتح عينى بصعوبة .. وأحدق بجانب دائما .. وأظل جالسا فى خط مستقيم .. لأنى اذا اضطجعت إلى الوراء سيغلبنى النعاس ، كان شعورى بالمسؤلية الضخمة مضاعفا .. ورغم الجهد النفسى الذى بذلته .. ولكن النعاس كان يغلبنى على فترات قصيرة جدا وأنا جالس وكنت أفتح عينى بقسوة بعد كل غفوة .. وأتلفت فأراها مكانها .. فأطمئن ..
     ولكنى أعود للنوم .. وأحلم .. بأنها نزلت من القطار .. وتخطت القضبان وهربت وقدمت للمحاكمة ، وحكم على بالسجن ، ويحدث كل هذا سريعا .. ولكن بوضوح .. فى شريط الرؤية الذى يدور .. وصرخت .. وفتحت عينى فوجدتها واقفة .. تتطلع إلى النافذة ..
     وقالت بلهجة حزينة .. لما وجدتنى أرفع رأسى :
     ـ أريد أن أذهب إلى دورة المياه ..
        وفتحت باب الديوان ، ودفعتها أمـامى إلى الخـلف فى الضـوء الشاحب والقطار يجرى .. وكانت دورة المياه ملاصقة لنا تمامـا فلم تتحرك أكثر من خطوتين فى هذا الظلام ..
     وفتحت لها الباب ودخلت ، وقلت لها بصوت آمر :
     ـ  دعى الباب نصف مفتوح ..
        فلم ترد .. وتركت الباب نصف مفتوح .. ووقفت نصف دقيقة فى الظلام ، أصارع رغبات لا قبل لمثلى بها .. ثم حركت الأكرة وأغلقت عليها الباب ..
   ووقفت أنضح عرقا .. ربما انتحرت أو القت بنفسها من النافذة فماذا يكون مصيرى .. وطال مكوثها بالداخل .. وأنا فى الخارج فى صراع ورعب ، ثم خرجت فوجدتنى على الباب فحدقت فى وجهى فى الظلام ، ثم مضت لا تلوى على شىء .. وجلست فى مكانها وقد مدت ساقيها والصقت ظهرها بالكنبة .. وتفرست فى وجهها الحزين وكل كيانها المرتجف .. كانت خائرة القوى .. أتخاف من المجهول .. بعد أن ضاعت الأحلام .. وأصبحت تواجه الحقيقة المرة .. واسترخيت مثلها .. وأحسست دون أن أنظر من نافذة القطار .. أننا تجاوزنا محطة المنيا .. وسمالوط .. وبنى مزار .. وأننا نقترب من " مغاغة " فأنا أعرف جو هذه المحطات دون أن أقرأ أسماءها .. من كثرة أسفارى ..
      وتوقف القطار على محطة صغيرة وطال وقوفه .. وكان الظلام يغطى كل ما حولنا والسكون شاملا ، ونباح الكلاب هـو الشىء الوحيد فى هذه البقعة الذى يدل على وجود الحياة .
***
     وأحسست بالقطار وهو يسير .. وملت عليـها فوجـدت جلستها غير مريحة فعدلت وضع رجليها ، وكانت مستغرقة فى النوم ، فألقيت بجسمى إلى الوراء .. وأصبح دوى العجلات الرتيب .. كأنه   نغم الأحلام ..
     ولا أدرى أنمت أم كنت صاحيا .. فإن الفترة فى تقديرى لم تكن تتجاوز دقيقة واحدة .. فقد فتحت عينى على حركة وقوف القطار فلم أجدها فى مكانها ..
      وارتعدت وقد مستنى فجأة حالة رعب قاتل .. ولكنى لم أفقد عقلى .. وتحسست بيدى الحرز فألفيته فى مكانه ، فتناولته بسرعة واندفعت من الباب ، وكانت هى قد تركتـه مفتوحا خشـية أن حركـة إغلاقه ستوقظنى ..
     وفى المحطة الصغيرة لمحتها وهى تجرى وتتخطى القضبان مسرعة فى اتجاه المزارع ..
     وأخذت أجرى وراءها .. وقد تركز العالم كله فى بصرى على ردائها العسكرى ..
      كانت تجـرى بأقصى سرعتـها فى طريق زراعى مترب بجانب زراعات البرسيم والخضر وفهمت قصدها فقد لمحت حقل ذرة .. وكان فى نظرها نعم المكان للاختفاء .
      وجـرت واندفعت إلى الحقل وغابت عن بصرى وأخفاها الحقل والظلام معا ..
***
     ويصعب على أن أصف إحساساتى فى تلك اللحظة ، فالشعور الذى انتـابنى إذ ذاك لا يمكن وصـفه . لا يمكن تسميـته بالخـوف ولا بالقلق ولا بالعار على ضابط مصرى هربت منه فتاة إسرائيلية ، هربت منه أسيرة وهو مسلح وهى عزلاء .. لابد أنها أسرته بمفاتنها فى الليل والظلام والوحدة فضعف واستسلم لها واستجاب لرغبتها .. وأطلقها تعيث فى الأرض فسادا ، أطلق جاسوسة تتجسس فى البلاد ونحن فى حالة حرب .
     والمحاكمة العسكرية .. والسجن والعار .. دارت كل هذه الخواطر فى رأسى .. وأنا أقف على رأس الغيط .. مسمرا ملتاعا .. واجهت ظاهرة غريبة وأصبح الزمان والمكان لاوجود لهما بالنسبة لى ..
     كان معى جهاز إرسال لاسلكى ، ولكننى لم استعمله ولم أطلب الاستعانة ولا النجدة .. خشية الفضيحة .
     ووقفت وحدى كأنما أنا فى الدنيا بأجمعها الذى يواجه وحده تحدى القدر ..
      ودخلت الحقـل أتخطى " الحوض " والمجراة .. إلى أين تمضى هذه الملعونة فى العتمة ..
     ولم أوغل كثيرا .. ورفعت المسدس وأطلقت ثلاث طلقات إلى أعلى وطلقة إلى مستوى رأسى وسمعت بعد هذا صرخة .. وصوتها وهى تطلب منى بالعبرية أن أكف عن اطلاق النار ..
     ووجدتها مبطوحة على بطنها فى قناة جافة وواضعة ذراعيها ويديها على رأسها ..
      وأوثقت يديها من الخلف .. وخرجت بها .
      كان القمر قد غاب منذ قليل وراء أشجار النخيل العالية وباتت القرية غارقة فى عتمة رمادية شهباء .. وليس غير رؤوس الأشجار بادية فى الظلمة ..
     ونسيت القطار .. وخيل إلىّ أنه قد مر على مجيئى إلى هذا المكان دهر كامل .
     وتطلعت إلى النجوم .. وهى تسير أمامى .. وتخطينا مرتفعات السباخ التى تجاور الحقول وأصبحنا نسير فى حذاء الترعة إلى المحطة .
***
     كانت نحيلة بادية الطول شاحبة اللون تمشى بخطوات مترنحة من فرط التعب .. ورأسها الصغير يتمايل على عنق طويلة يغطيها من الخلف شعر أشقر مرسل قد تلطخ من عناء الطريق .. وعيناها تحدقان فى وجهى دوما بنظرة فائضة بالحقد .

     وفى المحطة الصغيرة فككت وثاقها وانفجرت تعول بالبكاء .. وقد تكورت ووضعت ذراعيها حول فخذيها .. وتطلعت بعينيها إلى القضبان .. فى حزن واستسلام ..                  
     ولقد أدركت بجـلاء ، وأنا أحدق فى هذا الكائن ، أن هناك من يمتص الحياة من هذا الجسد البشرى ..
      أخذت أتفرس فى ملامحها دون حركة وأنا واقع تحت وطأة المشاعر التى كانت تفيض بها نفسى .. وأدركت فى تلك اللحظة الكثير مما تفعله إسرائيل برجالها ونسائها ، فهذه التى ولدت لتكون زوجـة أو مدرسـة أو طبيبة أو عاملة نافعة لجنسها .. حولوها إلى شيطانة للدمار".
     كانت المشاهد التى حولى كلها ساكنة .. القرية .. والمحطة .. والبساتين المزهرة .
     وكنت أرى قلوع المراكب فى النهر تبدو وأشرعتها من بعيد فى الظلمة كالأعلام وتسير فى طريقها فى سلام دون احساس بالحرب .
     أما الترعة عن يسارى فكانت ساكنة تماما .. فلا حركة فيها تدل على الحياة ..
     وفى الجهة الأمامية من المحطة الصغيرة يجلس الغضب والحب يتصارعان حب الحياة .. وغضب الثأر ..
     ورأيت فى وجهها أطفال مدرسة بحر البقر .. وعمال أبو زعبل .. وسكان بور سعيد .. والإسماعيلية .. والسويس الآمنين فى بيوتهم ، كل هؤلاء كانوا مدنيين عزل .. لم يطلقوا رصـاصة ولم يصوبوا مدفعا فى صدر أحد .. كانوا يعيشون فى سلام للحياة .. فقصفوا أعمارهم بقنابل الدمار .. إن الحقد يعشعش ويبيض فى قلوبهم ..
     كانت أمامى بكل حقدها وما فى نفسها من خساسة .. ولكن ماذا أفعل وأنا الرجل المسلح أمام امرأة قد جردتها من السلاح ..
     وسمعت صفير القطار من بعيد .. وأخذت أستعد لجولة أخرى معها فى هذا الليل الساكن ..
=================================
نشرت القصة بمجلة الهلال بالعدد 1 فى يناير 1974 وأعيد نشرها فى كتاب " الظرف المغلق " سنة 1980 وفى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
=========================================



بائع العطور


     كان " إسماعيل " موظفا فى شركة كبيرة بالقاهرة .. ولظروفه الخاصة شمله زملاؤه بعين الرعاية والعطف .. لمرضه المزمن وكثرة عياله وقلة راتبه ..
     وكان قليل الأجر لأنه توظف فى سن كبيرة بعد أن بلغ الأربعين ، وكان قبل ذلك يتاجر ، فأفلس كما أفلس أبوه فى السنة التى بعثه فيها يتعلم على حسابه فى جامعة " مونبلييه " بفرنسا ..
     كان أبوه يتاجـر فى القطن قبل تأميم الشركات فأفلس ومات كمدا ..
     وعاد " إسماعيل " من فرنسا لأنه أكبر أخواته ليرعى شئون الأسرة بعد موت الوالد .. فعمل فى التجارة بمال اقترضه .. ولكنه كان قليل الخبرة .. والسوق متقلبة بين مد وجزر ولم يقو إسماعيل على احتماله .. فأفلس بعد سنتين من مزاولته العمل ..
     وعاش فى ضياع وهو يزاول كل الحرف وكل الخدمات التى يقوم بها الرجل حتى مرض وأقعده المرض عن مزاولة أى عمل ..
     وأشفق عليه رجل كريم من أصدقاء والده فعينه فى وظيفة بالشركة
بمكافأة شهرية ..
     واستراح " إسماعيل " من التشرد واسترد بعض صحته وأحس بالاطمئنان وهو يقبض راتبا ثابتا فى أول كل شهر ..
     ولكن مع مرور الأعوام وزيادة الأعباء عليه من كثرة العيال ـ وأكبرهم بنت فى الخامسة عشرة ـ أخذ يحس بالضيق ، وبأن زوجته وأولاده لايعيشون مثل الذين هم فى مستواهم ، بل أقل بكثير ، وكان هذا يمزق روحه ويجعله فى قلق دائم ..
     وفكر فى شىء يزاوله بعد الظهر وبعد العمل فى الشركة ليزيد من دخله ، ولأنه خجول وشديد الخجل فقد وقف تفكيره فى بؤرة سوداء لايرى فيها بصيصا من النور ..
     وأخيرا تذكر شيئا لمع فى رأسه مثل الشعلة وله مثل بريقها .. تذكر أنه كان يسكن أيام دراسته فى فرنسا عند رجل يشتغل عاملا فى مصنع للعطـور .. وكثيرا ما كان الرجـل يحدثه عن العطور وصناعتها وتركيبها .. والمسألة سهلة وتحتاج لمال قليل فلماذا لايجربها ..
     وجربها " إسماعيل " فعلا وأخذ يصنع زجاجات صغيرة من الياسمين والنرجس ويعرضها على الموظفين وبدأ بموظفى مكتبه .. ولأنهم كانوا يعطفون عليـه فقد اشتروا منه الزجاجات الخمس التى حملها معه من البيت ..
     وشجعـه ذلك على العمـل وزيادة الانتـاج .. ولكن الخجل وهى صفة من أبرز صفاته جعلته يحدد دائرة التوزيع .. فاكتفى بعرض بضاعته فى حلقة الموظفين الذين يعرفهم ويحتك بهم فى عمله ..
     وسارت الأمور فى سهولة ويسر ..
     ولكن أسوأ ما كان يحز فى نفسه ويسبب له الألم .. تصوره أن الموظفين يشترون منه الزجاجات لمجرد الشفقة .. وليس لجمالها وجودة صنعهتا ..
     وكان صـادقا فى حـدثه .. فالأمـر القائم على العاطفة لايستقر ولايدوم .. فبعد أشهر قليلة أحس بالفتور فى معاملتهم له .. وأدرك أن مايعرضه أغلى مرة ونصفا مما يباع فى السوق .. وهذا كان طبيعيا ولاحيلة له فيه ولامخرج .. لأنه من يصنع مائة زجاجة من صنف جيد ليس كمن يصنع الفا والفين كما اتفق ومن غير اتقان ..
     ثم أن العطر شىء كمالى بحت وليس ضروريا كرغيف العيش .. والموظفون يبحثون عن قوت عيالهم أولا قبل أن يبحثوا عن العطور ..
     وعاد يشعر بالاختناق وعياله كلهم فى المدارس .. وابنته الكبرى دخلت الجامعة منتسبة ولها مطالب خاصة فى الملابس والكتب والمواصلات ..
     وأشار عليه زملاؤه فى المكتب بتوظيفها .. وهم سيسهلون لها كل الأمور فى حضور المحاضرات حتى تتخرج ..
     وتوظفت فعلا فى نفس الادارة وفى غرفة مجاورة لمكتب والدها .. وكانت رقيقة الطبع جميلة .. فأحبها الموظفون جميعا ويسروا لها كل أمور التدريب والعمل والذهاب إلى الجامعة ..
     وأحس " إسماعيل " بعد توظيف " ناهد " ومساعدة الزملاء له بأن الأيام أخذت تبتسم له بعد عبوسها .. أحس براحة البال ..
***  
     وكان من عادة " إسماعيل " بعد أن يقبض راتبه فى أول الشهر أن يشترى شيئا بسيطا لصغاره ليدخل الفرحة على نفوسهم ..
     ولاحظ وهو يمشى ساعة العصر فى شارع قصر النيل .. وكان ذلك فى أول يونية 1967 .. لاحظ أن اللافتات تغطى الشوارع .. لافتات من كل الشركات الكبرى والصغرى .. ومن معظم المحلات والدكاكين فى الشارع الطويل .. وجميعها تحمل العناوين المثيرة وتتحدث عن المعركة والهزيمة الساحقة لاسرائيل ..
     ونسى " إسماعيل " ما كان يود ابتياعه .. وأخذ يتجول لأنه وجد أن اللافتات ليست فى هذا الشارع وحده ، وإنما تغطى كل الشوارع التى يمر بها فى قلب العاصمة .. وجميعها تحمل نفس المعنى ..
     ولشعوره الوطنى المتقد سرته هذه اللافتات .. وأدخلت على قلبه البهجة .. وود لو صنـع لنفسـه لافتة وكتب حروفها بدمه .. وعلقها على صدره ، ومشى بها فى كل ميدان وشارع ..
     وهبت العاصفة بعد ذلك بخمسة أيام .. هبت فى اليوم الخامس من يونية سنة 1967 تحمل غبار الهزيمة وتمزق النفوس ..
     وأحس " إسماعيل " لوطنيته المتأصلة بطعنة دامية .. كأنه هو السبب فى هذه الهزيمة .. تغير حاله وشحب لونه .. ثم أصيب بشىء أشـبه بالشلل وأصبح يعوقه عن الخطو المتماسك .. أصبح نصف مشلول .. يتحرك بعكاز يعتمد عليه فى خطوه ..
     وفى غمرة الحزن والضياع والتمزق سار العمل فى الدواوين والمصالح والشركات فى جمود ورتابة ..
     وكان الموظفون يبحثون عن شىء فقدوه ولايعرفونه .. ولايستطيعون الوصول إليه ..
     وكان " توفيق بيه " مدير الشركة التى يعمل فيها " إسماعيل " أكثر الناس احساسا بما وصل إليه الحال بعد الهزيمة ، من تغير فى نفوس موظفيه ، وشعور بالمرارة .. فأخذهم باللين وبث فيهم روح الأمل ، ليستردوا أرواحهم ويمحوا العار .. وكان لهم قدوة فى كل عمل .. وأمام كل خطوة .. فكان دائب السؤال عن مشاكلهم وأحوالهم المعيشية .. وعن أسرهم .. فإذا مرض أحدهم زاره فى بيته .. وإذا كان لموظف ابن فى الحرب سأل عن أخباره .. وإذا كان الموظف لايستطيع بوسائله الاتصـال بابنه .. سأل هو بنفسه عنه وطمأنه عليه .. وكان سروره بعد الاطمئنان أكثر من سرور أسرته ..
     كان طيب القلب نادر المثال فى العطف والسخاء ..
     وهذه الحساسية المفرطة نحو خدمة الناس ورعايتهم جعلته يقود سيارته إلى " السويس " بعد غارة شديدة على المدينة ليأتى بقريبة له أرملة ووحيدة بقيت فى " السـويس " بعـد أن نزح عنها معظم السكان .. وصمم على أن يذهب إليها ويحملها فى سيارته .. ولكنه مات فى حادث تصادم ، قبل أن يصل إلى السويس ، وحزن عليه الموظفون فى الشركة حزنا شديدا .. حزنا من القلب .. فلم يمر عليهم من قبل رجل له مثل صفاته .. كان لهم الأب والقدوة ..
     وشاء القدر أن يعوضهم عنه بشىء على نقيضه .. على نقيضه فى كل الصفات .. كانوا قد سمعوا بسيرته قبل أن يجىء إليهم وأنكروها .. فلما جاء إليهم " مظهر بيه " واختبروه عن قرب .. أصبحت الرواية عنه أقل من حقيقته بكثير ..
     كان " مظهر بيه " عصابيا مريض النفس ، مجردا من الخبرة والعلم فيما يختص بعمل الشركة ، فغطى جهله ، بالغطرسة والتعالى ..
     وكان يحقد على الجميع الكبير والصغير من الموظفين ويلذ له أن يعرف كل صغيرة وكبيرة عنهم ..
     ولما أراد أن يشغل إسماعيل فى عمل لاصلة له بوظيفته .. نفر " إسماعيل " منه ورفض طلبه .. كيف يقبل أن يكون عينا على زملائه وينقل إليه أخبارهم .. رفض باصرار .. وتحت اصراره ورفضـه .. انتهز
 المدير أول فرصة وفصل " إسماعيل " من عمله بالشركة ..
     ولم يحدث " اسماعيل " أحدا من زملائه عن السبب الحقيقى الذى حدا بالمدير إلى فصله .. كتم عنهم الأمر .. وأخبرهم بأن حالته الصحية وما أصابه من شلل تتطلبان منه الراحة فى البيت ..
     ولكن الموظفين لم يصدقوه .. فهو مع حالته الصحية يعمل فى الشركة وينتج أحسن من ثلاثة من الأصحاء ..
     ووقع قرار فصله وقع الصاعقة على الموظفين .. لأنهم يحبونه .. ويعطفون عليه ويتصورون أن كل قرش يأخذه من الشركة هو بمثابة حسنة كبرى لها تمحو كل سيئاتها ..
     ولذلك لم يتركوه ، كانوا يذهبون إليه فى بيته .. وأخذوا يشيرون عليه بالعودة إلى صناعة العطور ، بعد أن انقطع عن صنعها واشتروا له الخامات والزجاجات الفارغة فعاد يشتغل ، وكلفوا من يوزعها له ويأتى له بالثمن ..
     وما لبث أن استرد أنفاسه .. وأخذ يتحامل على عكازه ويوزع الزجاجات بنفسه ..
     أما " ناهد " فقد تأثرت بفصل والدها دون سبب ظاهر لها ، وانتابتها حالة من الكآبة انقلبت إلى مرض عصابى شديد .. جعلها فى حالة سيئة .. فكثر تخلفها وانقطاعها عن عملها ودراستها .. وأشفق عليهـا زملاؤهـا فى الشركة قأبعدوها عن الشركة ووظفوها فى مكتب
محاسب لتبتعد عن جو الشركة كلية ..
***
      وأصبح إسماعيل يصنع زجاجات العطر فى البيت ويوزعها .. ويزور ضريح " الحسين " .. وضريح السيدة .. وضريح الامام .. كان فى وقت راحته يكثر من الصلاة والتعبد ..
     ووجد المساجد ممتلئة بالمصلين حتى فى غير أيام الجمع .. فى أيام المحن والاحساس بالألم والمرارة يلجأ الناس إلى الله ، وفى أيام راحتهم ورغدهم ينسونه .. فكر " إسماعيل " فى هذا وابتسم .. ووجد فى داخل المسجد من يبيع زجاجات العطر الصغيرة .. والجمهور يشترى ويشترى بكثرة .. خصوصا فى صلاة الجمعة وصلاة العشاء ..
     وفكر وهو فى مسجد الحسين .. بأن يتصل بهؤلاء الذين يبيعون الزجاجات العطرية الصغيرة فى وقت الصلاة .. واتصل بأكثر من واحد منهم .. وأصبح يورد لهم الزجاجات الصغيرة والكبيرة .. وهؤلاء يبيعونها فى داخل المسجد وخارجه ..
     ثم أصبح " إسماعيل " يورد زجاجات العطر .. للدكاكين أيضا فى أحياء المساجد .. وكانت الصناعة جيدة فراجت ..
     وقد جـعله العمـل المتصـل ينسى أنه مريض ونصف مشلول ..
 وفصله من عمله دون سبب ، ووجوده فى المسجد ، أوجدا عنده حالة انسانية ومشاركة فى ألم الآخرين ..
     وتأثره بالحرب والهزيمة جعلتاه يفكر دوما فى الحرب .. كان دائما يفكر فى الحرب ، وما الذى يعمله لها .. وليس عنده ولد فى سن الجندية يدافع عن وطنه .. ويرضى الوطنية المشتعلة فى قلبه .. ما الذى يعمله ، وهو نصف مشلول ، ليشترك مع المواطنين فى الدفاع عن الوطن ..
     فكر فى جرحى الحرب ، ورأى أن يزورهم فى المستشفيات ويوزع عليهم زجاجات العطر كهدية .. يعطيهم أحسن ما عنده .. ويبدأ بهذه الزيارات فى يوم الإثنين من كل أسبوع .. وكان يتبارك بهذا اليوم ، لأنه يوم مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ..
     وفى أقسام الجراحة بالمستشفيات عرف مكان جرحى الحرب .. وكان يعطى الزجاجات الصغيرة لكل من فى الغرفة .. كان لايترك جريحا واحدا .. كان شديد الحساسية .. ويعرف ما يتألم منه الناس .. كيف يعطى واحدا ويترك الآخر ..؟
     ولذلك كان يعرف عـدد مـن فى العنـبر قبـل أن يلج من الباب .. فإذا وجد ما معه من الزجاجات ناقصا ، أرجأ الزيارة إلى الإثنين التالى ليستكمل العدد ..
     وفى كل يوم كانت تزداد نفسه صفاء وشفافية .. وينسى مرضه وينسى أنه نصف مشلول ..
***
     وكان جميع أصحاب دكاكين العطور ، فى حى الحسين ، يلحون عليه
 فى طلب ما يصنعه .. كلما مر أمامهم يتوكأ على عكازه .. بخطوه البطىء .. كان يتحرك خطوة .. خطوة .. ولكن فى إصرار لم يفقد إيمانه بالحياة قط ..
     وكان يمـكن أن يستعين بأولاده ، بعـد أن كبروا وشبوا عن الطوق .. ولكنه كان يرفض هذا ..
     ويتحرك وحده .. ويترك أولاده فى مدارسهم ودروسهم ..
     وأصبح المرضى فى المستشفيات ينتظرون قدومه ، كأنه فى كل مرة سيعطيهم كنزا من كنوز " قارون " كانت نفحتـه العطرة ترطب نفوسهم ، وتجعلهم فى حالة من الرضى النفسى .. والاحساس بالمشاركة من رجل فقير لاغرض له من عمله الانسانى ..
     وهذا الرجل الذى يمشى بعكاز ، يجىء اليهم باسما مستبشرا ، متحملا كل مشقات الطريق .. وهو لايبغى من عمله خيرا مـن انســان ، ولامثوبة من مخلوق ..
     كانوا ينتظرون قدومه .. ويحسون برائحة العطر من بعيد قبل أن يدخل عليهم ..
     وأصبح على مرور الأيام جزءا من حياتهم فى المستشفى .. وعطرهم فى الخارج .. كان من يبرأ منهم ، ويندمل جرحه ، يخرج بعطره معه ، كانوا يحتفظون بزجاجاته الصغيرة ، ولايفرطون فيها أبدا ، كرمز للوفاء النـادر .. كرمز للإنسان المصرى الفقير المضحى بقوته ليرى الفرحة فى
وجوه الآخرين ..
***   
     ونسى " اسماعيل " فى رحاب المسجد .. وفى انشغاله بزيارة الجرحى .. " مظهر بيه "وكان هذا قد ذهب عنه هيلمانه وصولجانه وأصبح لايخيف أحدا ..
     كان يخرج من باب المصعد ويسير فى الطرقة ويحيى كل من يقابله برقة حتى السعاة والفراشين .. ومع أنهم كانوا يردون تحيته بالبساطة والطيبة اللتين فى نفوسهم ، ولكنهم كانوا يحتقرونه ..
     وأحيل إلى المعاش وترك الشركة .. ونسى الموظفون هذا الرجل .. نسوه تماما وأزاحوه من عقولهم وتفكيرهم .. إلى أن جاء إليهم من ذكرهم به .. وأخبرهم أنه مريض .. ومرضه خطير تحير فى تشخيصه الأطباء فى مصـر ، ونصحـوه بأن يسـافر إلى الخارج ، وسافر مرتين دون نتيجة ..
     وفى المرة الثالثة تبين أنه مريض بسرطان الدم وصرف آلاف الجنيهات وباع كل ما يملك وأصبح فى حالة نفسية يرثى لها ..
     وعندما ذهب الموظفون إلى بيت " إسماعيل " وأخبروه بالخبر .. تأثر
جدا ودمعت عيناه وفكر معهم فى أحسن وسيلة لمساعدة هذا الرجل دون ايذاء لشعوره ..
     ورسم لهم الطريق ..
     ونجحوا فى جمع مئات الجنيهات له .. وكان أكثر الموظفين تبرعا ، هم أكثر من تحمل الايذاء من هذا الرجل .. وكان إسماعيل أكثرهم جميعا ..
     وكان فوق هذا يدعو له بالشفاء كلما دخل المسجد .. نسى ما فعله فيه من قبل .. نسى أنه شرده وهو مريض وضاعف من ألمه وسبب له الشلل .. نسى كل هذا بعد أن صفت نفسه من كل أدران الحياة ..
***
     ومرت سنوات .. وأصبحنا فى سنة 1973 وعندما هل شهر رمضان بنوره فى هذه السنة ، وكنا لانزال فى الخريف ولم تشتد بعد وطأة الحر على الصائمين .. كان " إسماعيل " يقضى من الظهر إلى صلاة المغرب فى مسجد " الحسين " بجانب عمود من أعمدة المسجد ، يضع عكازه .. ويجلس يقرأ القـرآن .. ويحضر صـلاة العصر جامعة .. ثم صلاة المغرب .. ويفطر على كوب من الخروب .. ثم يذهب إلى بيته ليتناول طعام رمضان مع أسرته ..
     وذات يوم وهو فى جنبات المسجد ، أغفى قليلا بعد أن صلى ، واستيقظ على صياح وتكبير فى خارج المسجد .. ثم سمع التكبير فى داخله ..
     وكان " الراديو " فى الخارج يذيع بأن الجيش المصرى اقتحم خط " بارليف " ورفع العلم المصرى على شرق القناة ..
     وانتفض اسماعيل من الفرحة .. واهتز كيانه كله .. سرت فى عروقه
موجـة وهو ينتفض ويهرول إلى الخارج ليسمع الراديو عن قرب ..
     وكان فى هذه المرة قد نسى عكازه فى داخل المسجد .. ولم يشعر بفرحته لنفسه وهو فى قلب الشارع من غير عكاز مدركا بأنه قد شفى تماما من علته .. لأن الفرحة الكبرى بالانتصار كانت أعظم ..
==================================== 
نشرت القصة بمجلة الثقافة ـ العدد 58 ـ يولية 1978وأعيد نشرها فى  كتاب " الظرف المغلق " سنة 1980
====================================

الورقة المطوية
        
            
      وقفت فى الصف مع الرجال .. أمام شباك التذاكر .. وكان الزحام شديدا فى نهاية الصيف والطابور يتلوى لطوله ويبرز خارج المحطة ..
     وكان آخر قطار " ديزل " يتجه إلى القاهرة .. ومع أن معظم الواقفين فى الطابور لم يكن عندهم أدنى أمل فى الحصــول على مقعد ولكنهم وقفوا .. وصبروا ليجربوا حظهم .
     وكان عامل التذاكر فى محطة " سيدى جابر " بليدا ولئيما  وحلا له تعذيب الواقفين أمامه فى الطابور .. إذ كان يعمل فى بطء شديد ، ويحادث موظفا فى الداخل بين الحين والحين ويدير رأسه إلى الوراء دون سبب ظاهر ثم يعود فى تكاسل إلى عمله ..
     وكان كل الذين يرون هذا المشهد المغيظ ، لايبدو منهم التذمر أو الاعتراض .. فقد الفوا مثل هذه الأشياء .. واعتادوا عليها .. وكانوا على يقين .. بعد التجربة المرة .. إن الشكوى والتذمر لاجدوى من ورائهما .. ولايغيران الحال .. فلاذوا بالصمت .
     وصمتت السيدة مثلهم ولكنها كانت تشعر بالغيظ .. وصبرت حتى جاء دورها وأصبحت أمام الموظف على الشباك .. وفتحت حقيبتها لتخرج ثمن التذكرة .. وارتعشت يدها وتمتمت ثم أخضلت عيناها بالدمع ..
  وظهر عليها الاضطراب بوضوح .. وأخذت تتلفت زائغة البصـر .. ثم خرجت من الصف وهى لاتستطيع حبس عبراتها ..
    وأدرك الرجل الذى كان وراءها فى الصف حالها وما جرى لها .. وكان قد سمعها وهى تقول :
     ـ تذكرة لمصر ..
     ثم انشل لسانها ..
     فأخرج ورقة بخمسة جنيهات من جيبه وقطع تذكرتين بدلا من تذكرة واحدة .. وتناول الباقى من الموظف ثم خرج من الصف ..
     وظل يبحث عن السيدة حتى وجدها خارج المحطة .. فتقدم اليها وقال بلطف وهو يمد يده بالتذكرة ..
     ـ أدركت ما حدث .. فاسمحى لى بأن أقدم هذه التذكرة .. وعندما تعودين إلى بيتك .. ردى ثمنها فى أى وقت ..
     فنظرت إلى الرجل مشدوهة .. لم تكن تقدر .. أو تنتظر مثل هذا من إنسان .. وتصورت أن الرجل يحتال عليها .. أو يفعل شيئا ليتقاضى ثمنه مضاعفا .. وظلت مترددة واجمة ولكن لما توضحته ونظرت إلى عينيه توسمت فيهما الطيبة المطلقة ..
     فتناولت منه التذكرة .. وهمست ..
     ـ متشكرة ..
     وبعد أن دخلت من باب المحطة .. تذكرت أنها لم تسأل الرجل عن عنوانه لترد له نقوده ..
     فمشت إليه فى استحياء .
     ـ ولكن .. حضرتك .. لم تعطنى عنوانك ..
     ـ فى القطار .. اننا جنب بعض ..
     جنب بعض .. وعاودتها الهواجس انه يستغل الموقف إذن .. واضطربت وعلا وجهها السهوم .. لقد كانت تتصور فيه الطيبة فإذا به كغيره من الرجال استغل موقفها ببراعة .. ترد له التذكرة ؟ ولكن أين تذهب فى هذه المدينة الكبيرة وهى وحيدة مفلسة ؟ فبعد أن نشلت ليس فى جيبها أى نقود على الاطلاق .. وليس لها قريب أو غريب فى الإسكندرية تعتمد عليه ..
     وظلت حائرة مضطربة .. ثم شعرت بالقطار يدخل المحطة فأنقذهـا من حيرتها وركبت وهى تترك الأمر للمقادير ..
                               *** 
     وبحثت عن الرجل وراءها وقدامها وهى تدخل فى جوف العربة فلم تجده .. وكان الزحام شديدا .. خلق كثير .. يتدافع بالمناكب .. فى داخل العربة .. وتحركت ببطء وهى تقدر العثور عليه بعد أن تجلس على المقعد .. فهو بجوارها كما قال لها ..
     ولكنها وجدت رقم كرسيها بجوار سيدة فجلست متعجبة .. ولما تحرك القطار تطلعت فأبصرت بالرجل هناك فى أقصى العربة .. يجلس بجوار الباب ..
     وظلت عيناها معلقتين به .. وهى تنتظر منه أن يتحرك من مكانه ويأتى إليها وعلى الأخص وهو يعرف رقم مقعدها .. ولكنه لم ينهض حتى بعد أن جاوز القطار محطة " دمنهور " ..
     وفى محطة " طنطا " حمل اليها لفة طعام ونظرت إليه .. وابتسمت .. وتناولت اللفة صامتة .. فقد خشيت إن رفضتها أن تثير فضول الركاب .. وخصوصا السيدة التى بجوارها فهى فضولية إلى أقصى مدى ..
     ولذلك تناولت منه الطعام وهى تشعر من حولها بأنها قريبة له أو حتى زوجته .. فهو فى سن زوجها .. وأخذت تأكل .. ضامة شفتيها ما أمكن .. وعزمت على جارتها أكثر من مرة ..
     وبعد أن فرغت من الطعام وأحست بأنها تقترب من محطة القاهرة .. فكرت فى الذى تفعله لتصل إلى بيتها فى الدقى فى هذا الليل ومعها حقيبة ثقيلة ..
     وخرجت من القطار .. تحمل حقيبتها بيدها .. وفى الصالة الخارجية لمحطة القاهرة كان الرجل بجانبها يعينها .. ودفع إلى يدها ورقة بخمسين قرشا ..
     وقال ..
     ـ هذا للتاكسى ..
     فقالت له بثبات هذه المرة ..
     ـ أبدا .. لابد من اسمك وعنوانك أولا ..
     فابتسم فى لطف .. وأخرج من جيبه ورقة وقلما .. وانتحى جانبا ليكتب ثم طوى الورقة .. وقال لها ..
     ـ فى هذه الورقة اسمى وعنوانى ورقم تليفونى أيضا ..
     وأركبها تاكسى .. واختار لها سائقه ..
     ولما دخلت البيت .. كان زوجها لايزال فى الخارج .. وكانت الشغالة فى انتظارها وسرت لقدومها ..
     ولما أخرجت " ثريا " ملابسها من حقيبتها واستراحت قليلا أخرجت من حقيبة يدها الورقة التى أعطاها لها الرجل " وكانت عدة طيات ففردتها ونظرت فيها .. فوجدتها بيضاء .. ليس فيها حرف واحد ".
     وابتسمت وصورة الرجل الغريب تتضخم أمامها وتعظم حتى ملأت جوانب البيت كله ..
     ولما جاء زوجها من الخارج وجدها فى الفراش .. فاقترب منها فى شوق ليحتضنها ولكنها دفعته عنها نافرة واعتذرت بأنها تعبة ..
     ولأول مرة فى حياتها تشعر بكراهية شديدة له واحتقار من غير حدود .. كانت تقارن بين صفاته الخلقية وصفات الرجل الآخر ..
     فقد لمست لأول مرة فى حياتها النبل والشجاعة فى إنسان ..
================================= 
نشرت القصة فى مجلة الهلال عدد يونية 1973 وأعيد نشرها فى كتاب " الظرف المغلق " سنة 1980 وفى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
=================================




السن الذهبية

عادة " سعيد " أن يقطع عليك الطريق وأنت تمشى كالحالم فى شوارع العاصمة ويقول بصوت هادئ ولهجة مؤدبة تجعلك تستفيق من شرودك ..
-          صباح الخير يا بيه ..
-          صباح الخير ..
-          يعنى سعادتك .. مبتجيش النادى من زمان ..؟
فترفع له رأسك لأنه أطول منك بمجرد سماعك لكلمتى سعادتك .. والنادى .. وتحدق فى وجهه .. وفى قلبك السرور .. وفى عينيك البهجة .. فقد نقلك فى غمضة عين .. من طبقة الناس العاديين الأنفار الذين لا وزن لهم فى الحياة .. إلى طبقة مجتمع النوادى حيث الارستقراطية والرفاهية من غير حدود ..
على أثر قوله تلتفت إليه منتشيا .. وتطالعك منه فى هذه اللحظة ابتسامة عريضة وتبرز سن ذهبية فى الفك الأعلى .. تلتمع وحدها فى كهف الفم المعتم كحبة الزمرد .. وتفيض على أثرها ملامح الوجه جميعا بالبشاشة المنطلقة من كل أسار الحياة .. فاذا اقترنت بالوجه الأسود اللامع لمعان الأبنوس .. والذى توحى كل ملامحه بأقصى درجات الطيبة .. استراحت إليه نفسك .. وأقبلت عليه بوجهك بعد أن سرتك كلماته ..
وينتهز هذه السانحة ويقول على الفور :
-          حتشرف سعادتك النادى العصر ..؟
-          إن شاء الله ..
-          حقول لعبد الحميد بك .. إن سعادتك حتشرف ..!
ويظل واقفا فى مكانه وقد ارتسمت على وجهه الطويل علامة استرحام خرساء .. فتضع يدك فى جيبك على التو .. وتعطيه عشرة قروش أو أكثر .. فيتناولها شاكرا داعيا لك بالصحة والهناء ..  
وينطلق بجلبابه النظيف الناصع البياض مبتعدا عن الشمس وفى حركة السيارات حتى يغيب عن بصرك ..
وبعد رحيله مباشرة ترجع رويدا إلى نفسك .. وتستفيق من هذه الغفلة .. فلست من رواد النوادى .. ولم تشترك قط فى أى ناد من نوادى القاهرة .. وتدرك أن الشاب الأسمر قد خدعك بطريقة نفسية بارعة .. وضع أصبعه على عقدة الفقر التى فى أعماقك ولمسها بحنان ..
ومع ذلك فما تشعر بالأسف على خداعه وقد تضحك لبراعته .. ويكون هو فى لحظة تفكيرك هذه قد بارح مربع الاسعاف سريعا ومضى بكل طوله وقوة عضلاته فى شارع 26 يوليو .. ليقف وقفات هناك ثم مثلها فى " التوفيقية " .. وشارع طلعت حرب .. وميدان " الأوبرا " ..
وفى الليل وفى وهج المصابيح المتألقة فى قلب العاصمة .. يتخذ له مقرا فى حانة " ديانا " بشارع " عبد الخالق ثروت " من الناحية الغربية يشرب الخمر ويتحدث مع رواد الحانة .. وغالبيتهم من سماسرة الشقق المفروشة .. وكثيرا ما كان يسبهم ويلعنهم لأنهم نصابون .. ولكنه لا يتعدى التنابذ بالألفاظ لأنه مرح وفى طبعه وداعة ..
وبعد أن يأخذ كفايته من الراحة وينعش نفسه .. يتحرك إلى مفترق الطريق بين شارع طلعت حرب وشارع 26 يوليو ويقف على الرصيف الأيمن .. يستقبل القادمين من القطارات والمطارات ويصحبهم إلى الفنادق .. وغالبا ما يصيب خيرا ..
***
وذات ليلة هبطت عليه سيدة شابة تلبس السواد من سيارة آجرة .. وفتح لها الباب .. وخرجت مسرعة إلى باب العمارة القائمة فى بداية الشارع ..
وفى كل ليلة كانت تأتى فى نفس الساعة ويفتح لها باب السيارة .. ويتلقى ابتسامتها الرقيقة من وجه زاده الفستان الأسود تألقا وسحرا .. وكان إذا وجدها تحمل فى يدها شيئا ولو صغيرا حمله عنها حتى باب المصعد .. ومع كل الهابطين من السيارات الخاصة وسيارات الأجرة .. كان يقف مؤدبا بعد كل خدمة ينتظر البقشيش ولكن مع هذه السيدة لم يكن يطلب أى شيء على الإطلاق ..
وكان يكفيه ابتسامتها الحلوة .. والبريق الذى يشع من عينيها العسليتين .. يهزه كأنها ماس كهربائى .. وينفذ الى سويداء قلبه .. فهو زاده فى الحياة ومصباحه ..
لم يكن يراها تبتسم هذه الابتسامة الناعمة .. التى تختلج لها شفتاها قليلا وتتكسر وجنتاها .. إلا عندما ترى وجهه الأبنوسى وحركة يده فى أكرة باب السيارة ..
وسأل نفسه لماذا تلبس السواد .. أنها شابة لم تبلغ الخامسة والعشرين من عمرها .. وخمن أنها أرملة .. أو حزينة على عزيز لديها مات فى الحرب أو فى غيرها .. تأثر لحزنها .. وزادها من لدنه حنانا ورعاية كرجل ..
وكانت رقيقة جدا ولطيفة معه .. حتى أصبح وجوده فى المكان متعلقا بحضورها ..
وكلما قدمت له شيئا نظير خدماته .. رده بلطف .. لم يكن يقبل أن يأخذ منها مليما واحدا ..
وكان شعوره نحوها يزداد فى كل يوم قربا .. حتى شغل بها تماما وأصبحت معبودته ..
وكان دائما يراها وحدها فى السيارة فى الشارع .. وفى المقصف عندما تتناول وجبة خفيفة من " الأمريكين " فى نفس الشارع .. وحتى فى الأسانسير .. لم تكن تركب مع أحد .. كانت تظل واقفة فى مدخل العمارة حتى يخلو لها المصعد وحدها ..
وكان وهو واقف بجانبها يحمل لها ما تسوقته .. يشعر بالسرور لهذه الحركة .. أنها حركة طبيعية من امرأة وحيدة تحرص على سمعتها فى هذا الحى الصاخب ..
***
ولكن حدث ما خسف وجه القمر .. فقد شاهدها عرضا خارجة من سينما قصر النيل بعد منتصف الليل بصحبة رجل .. ولم يصدق عينيه .. وأصابته من المفاجأة لوثة ظلت تنهش عقله وقلبه طوال الليل ..
***
وفى الصباح التالى كان كالمضروب على يافوخه .. فتعطل عن كل حركة وأصابه الشلل تماما .. ولم يقف على النواصى كعادته يراوغ العابرين ويتحدث عن النوادى ..
لقد أنطفأ بريقه وخمد ذكاؤه .. وانكمش يشرب الشاى الأسود فى مقهى النجوم ويدخن بشراهة .. وكان حوله وأمامه على الرصيف ملتصقين بالسور الحديدى .. بعض المتسكعين والعاطلين والقوادين .. يترقبون الوافدين من الخارج كعادتهم .. ليقدموا لهم الخدمات ..
ولأول مرة فى حياته يشعر نحوهم بالكراهية الشديدة .. ويود لو تخسف بهم الأرض .. ولكى يخفف من غلواء نقمته عليهم وغضبه .. ترك المكان وخرج يسير فى الشوارع كالضال .. ولمح من بعيد فى ظل العتمة شيئا يتحرك جعل قلبه يتجمد أولا .. ثم أخذ يخفق بعنف .. فقد شاهدها هى بلحمها ودمها تدخل فندقا يعرفه بسوء السمعة مع نفس الشاب ..
***
ودارت به الأرض .. وظل واقفا فى مكانه ينتظر نزولها .. ليخنق الشاب .. وطال انتظاره .. ولم يخرجا .. وظل يروح ويجئ أمام الفندق وعيناه تحدقان فى النوافذ المظلمة والمضيئة كالمسلوب العقل ..
***
وعلى الرصيف المقابل شاهد فى العتمة منظرا جعل غضبه ينفجر .. شاهد شخصا يغرى فتاة لم تبلغ العشرين على الركوب مع شاب فى سيارة .. والفتاة تبدو خائفة ومترددة لفترة ما .. ثم ركبت ..
وفى وثبة واحدة .. أصبح " سعيد " على رفرف السيارة قبل أن تتحرك .. وأخرج الفتاة بعنف وصفعها فطارت .. وأمسك بعنق القواد وضغط حتى خرج لسانه ..
ودارت معركة صاخبة اشتركت فيها كل الجموع المتسكعة فى الليل على الرصيف ..
وخرج منها الشاب الأسمر وقد فقد سنته الذهبية .. ولكن أحس بالرضا عن نفسه .. أحس بأنه فعل شيئا ذا قيمة .. فلم يجرؤ واحد من الساقطين والمتسكعين بعدها على الاقتراب من الحى ..
======================== 
نشرت القصة فى مجلة الهلال بالعدد 2 فى فبراير 1971 وأعيد نشرها فى كتاب " الظرف المغلق " سنة 1980 وفى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
======================




طلقة فى الظلام

 كانوا ثمانية خرجوا فى الظلام من مدينة "العريش" والعدو على مبعدة ثلاثة كيلو مترات منها .. وهدير القصف يسمع فى كل مكان ..
     وعندما تجاوزوا حدود المدينة وجدوا خلقا كثيرا يتحرك مثلهم إلى الغرب ..
     واكتسحت الجموع الطريق الضيق ، كانوا يسيرون فى مشقة ، وقد اختلط الحابل بالنابل ، والرجال بالنساء ، والأطفال بالشيوخ ، والعذاب يلفهم فى كل خطوة ..
     كانت الحرب تتحرك بسرعة رهيبة .. والحياة نفسها تتحرك فى قلوب هؤلاء المشردين بسرعة ولهفة ..
     وكانت السيارات قد اختفت عن المنطقة كلها ، أخذها من سبقهم إلى الفرار .
     والطريق المألوفة قـد خربت بالقنابل لتعوق المدرعات من الانسحاب ، فاضطر الأهالى إلى الاتجاه إلى البحر ، والتفرق فى صحراء سيناء ، وساروا على وجوههم .. وكانت الأرض والسماء ملفوفتين بالدخـان والنار .. والطيـور تطير مذعورة وريح الصيف تزفر نارا وبخارا ..
     وكان القلق يعصف برؤوسهم ..
     وظلوا يسيرون طوال الليل ، والقنابل تتناثر حولهم ، ودوامات الرمال تثور فى وجوههم والفراغ الرهيب الذى يحدث من الانفجار يعريهم من ثيابهم ، ويطير متاعهم من أيديهم ..
***
     ورغم تفكك الجموع .. ظل الثمانية كما هم .. وكانوا جميعا من الموظفين المصريين الذين يعمـلون فى العريش ومن بينهم سيدتان ..
     ورغم تزايد عدد الرجال على النساء فى هذه الرحلة الرهيبة فقد استراحت المرأتان إلى الصحبة ..
     ولم تكن بين هذه الجماعة أية علاقة عمل أو جوار .. ولكنهم اجتمعوا على الطريق لغرض واحد ..
     وساروا أولا حـذاء البحر ، والنخيل الكثيف النابت فى الماء على يمينهم يتمايل ويلطف الجو كله . فلما جاءتهم أنباء بنـزول الأعــداء من ناحـية البـحـر ، غيروا اتجاههم ودخلـوا فى الصـحراء ..
     وبعد نهار خانق وشمس حامية ، ورمال حارقة .. عثروا فى الليل على سيارة قديمة ، وقبل سائقها بعد مساومة طويلة ، وبعد الضراعة ، وكل ضروب التوسل .. قبل أن يحملهم إلى القنطرة شرق وهم وحظهم فى العبور .. !
     وتقاضى منهم الأجر مقدما قبل أن يضعوا أقدامهم فى العربة .. تقاضى منهم أجرا باهظا كأنه سينقلهم إلى أوربا .. ودفعوا صاغرين ولم يتعجبوا إنها دقات الحرب ونوازعها الشريرة فى النفوس الوضيعة ..
     وقال السائق القصير العنق ، النمش الوجه ، الأحمر الشعر ، بعد أن تحرك بالسيارة فى طريق ملتوى يعرفه أمثاله :
     ـ سنتعرض فى الطريق للتفتيش .. فقد نزلوا بالمظلات وهم الآن أمامنا ..
     ونظر للسيدتين بخبث فالتهب وجهاهما ..
     ثم أضاف :
     ـ وأرجو ألا يكون معكم سلاح .. وإلا تعرضنا للمهالك ..
     فلم يرد عليه أحد .. كان الانكسار قد سحق مشاعرهم ، وجمـد إحساسهم ، فلم يعودوا يعبأون بأى شىء يقع لهم . وكانوا قد خرجوا من بيوتهم دون أن يتزودوا بزاد الطريق ، حمـلوا نقودهم فقـط ، وتركوا كل شىء آخر ، ومنهم من نسى حتى ذلك ..
     ولم يجدوا على الطريق من يبيع لهم الماء .. وشكروا الله لأنه ليس معهم أطفال ..  
     وبعـد سـير بطىء  أسرع منه المشى على القدم .. وفى جو الحرب والقصف .. فاجأتهم غارة مروعة فخرجوا جميعا من السيارة ، وطاروا على وجوههم يدفنون أجسامهم فى التلال الرملية المحيطة بهم ..
***
     ولمــا فتــح " إسـماعيل " عينيـه وأفـاق من غشيته ، وجــد " أمينة " وحدها هى الباقية من الثمانية ، ولم يعرف أين ذهب الباقون ، غيبتهم الصحراء فى جوفها ، أم مزقتهم القنابل ..
     وشـكرت " أمينة " ربها لأنها وجدت رجلا بجانبها فى الليل والحرب .. وكانت قد استراحت إلى " إسماعيل " منذ ركبت معه السيارة ، استراحت إلى أعصابه الهادئه وجلده .. واشتمت فى ملامحه وطباعه النبالة .. ولم تكن فراستها تخيب أبدا فى نظرتها إلى الرجال ..
     فمنذ بدأت تعمل وتخرج إلى الحياة ، وتنتقل من بلد إلى بلد ، وهى تحمل بين جنبيها ذخيرة تجارب صادقة ..
     ولم تكن وهى الأنثى الشابة الجميلة إلى حد الفتنة .. ترفض البعد عن الأهل فى سبيل العمل والحصول على رزق أوسع .. وكانت بعد " العريش " تتطلع إلى العمل فى الكويت .. وليبيا .. والسعودية لتجمع لأسرتهـا من المال ما يبنى لهم بيتا .. " فيلا " جميلة بدلا من السكن بالإيجار ..
     ولكن أحلامها أوقفتها الحرب عند وجه " إسماعيل " ..
     وتطلع إليها فى غبش الظلمة والصحراء فى لون الرماد ، والطلقات تصفر .. وقال بتؤدة وهو يتألم لما لاقته فى سفرها من عذاب :
      ـ يجب أن نخرج من هذا المكان .. ونسرع ما أمكن .. وكنت أود أن يعطينى الله القوة لحملك . . وما أحسبك ثقيلة الوزن ..
     فقالت ورغم الضنى ابتسمت :
ـ فى حدود ستين كيلو ..
ـ ليس هذا بالصعب .. إنه وزن استطيع حمـله والسير به عشر خطوات .!
    ونظر إلى عينيها على اتساعهما ، تلتمعان فى الظلمة .. وقد هزتها كلماته المداعبة فى هذا الجو ..
     وقال وهو يجلس على الأرض :
     ـ يجـب أن نتخفف من حملنـا لأن المشوار طويل .. وسأبدأ بنفسى ..
     وفتح حقيبته وأخرج حاجات قليلة وضعها فى جيبه .. وألقى بالحقيبة وما بقى فيها فى الرمال وهو يقول :
     ـ انها مطمع للأعراب .. ولا خير فيها ..
     وقالت بعد أن شاهدته يضع مسدسا فى جيبه ..
     ـ أكنت تحمل المسدس .. بعد أن حذرك السائق من التفتيش ..؟
     ـ المسدس حملته من أجلك .. ومن كان يضع يده عليك سأرديه قبل أن يتحرك له أصبع ..
     فانشرحت لقوله وقالت فى رقة :
     ـ ولكنك ستموت بعدها ..
     ـ وما قيمـة الموت للمرء .. بعـد أن يشعر بأنه أدى واجبه كرجل ..
     وقال وهو يشير إلى حقيبتها :
     ـ والآن جاء دورك ..!
     فقالت وهى تفتح الحقيبة ..
     ـ انظر ليس بداخلها سوى أشياء قليلة .. ماتتزين به النساء .. ونقودى وجواهرى ، أما ملابسى كلها فقد تركتها فى البيت .. وليس معى سوى فستانى الذى أرتديه ..
    وتأمل فستانها الوردى ، الذى كان لايزال منسجما على جسمها ، رغم رحلة العذاب . وكانت رشاقتها تنبع من حيوية جسمها . فبعد  التمرغ فى الرمل يبدو كل شىء بعد لحظات بكل جماله الطبيعى .. العينان والشفتان .. كلها تفيض بالحرارة والفتنة ..
     وكانت قد غطت شعرها الأسود المتموج بإيشـارب وخلعـت ساعتها الذهبية .. كما خلعت حذاءها .. وأبقت سلسـلة ذهبية فى عنقها لأن فى نهايتها " المصحف " ..
    وأعطاها جوربه وهو يقول :
     ـ البسى هذا .. وسنسير فى الليل .. وفى بكائر الصباح .. أما فى وهج الشمس فسنتوقف عن السير .. ونحتمى فى أى مكان نراه صالحا .
    ووضعت يدها فى داخـل حقيبتها ، وأخرجـت منها حزمـة من الأوراق المالية وقالت له :
     ـ  ضع هذه النقود فى جيبك ..
     ـ خليها فى مكانها وسأحمل عنك الحقيبة بما فيها .. ولكن ما هذا المبلغ كله .. ؟
     ـ كنت ذاهبة إلى " غزة " لأشترى ثلاجة وتليفزيون ، وأدوات مائدة لأختى ، والحمد لله لو ذهبت ما استطعت العودة ..
     ـ خذى هذا المبلغ احتياطيا للظروف .. فربما طوقونا .. وفصلوا بيننا ..
     ـ معى ثلاثين جنيها ..
     ـ أين .. ؟ !
     واسـتغرب فلم يكن لثوبهـا جيوب .. وأشارت إلى صدرها فى خجل ..
     ـ يا لبراعة النساء ..
     وابتسم والليل تبدو غياهبه فى كل موضع .. وبقيت النجوم وحدها تتلألأ فى السماء بين الدخان ولهب الحرب ..
     وحمل لها الحقيبة وسارا .. وعجب ـ وهو يسير إلى جانبها فى الليل والحرب ـ لما أحس به .. فقد شعر بقـوة لم يشعر بمثلها فى جسمه .. وكانت الريح الخفيفة تحرك الرمال .. ولكن سماء شهر يونية بدت صافية .. كلما خف الدخان ووهج النيران ..
     وشعرا معا بوجود جسم رمادى يتحرك عن يمينهما على مبعدة مائة خطوة لا أكثر ، ثم تبينا أنها سيارة عسكرية للعدو .. وكانت تسير ببطء شديد فى طريق متعرج .. وتتـوقف لتسير .. ولعلـها ترسـل الإشارات .. وأحس "إسماعيل" بالخطر . فأمسك بيد أمينة وجذبها إلى الأرض .. فانبطحت بجانبه فى رملها وترابها .. وهمس فى أذنها .. فكتمت أنفاسها والتصقت بالرمل أكثر وأكثر .. وتخشبا تماما .. ووضع يده على مسدسه .. ثم تركه بعد أن تبين أنها مخاطرة .. فيها من الطيش أكثر مما فيـها من التعقـل .. ومـا ذنب أميـنة فهى إن نجـت من القتـل لن تنجـو من العـار ..
     وأمسك بيدها وضغط وأحس بالحرارة والعرق والتراب والرمل .. أنه ترابه ورمله .. ولن يخوناه أبدا .. وراقب السيارة بعين الصقر حتى ابتلعتها الصحراء فى جوفها ..
     وأنهضها واستأنفا السير ..
     ولم يكن يدرى أهى خائفة ..؟ كما تخاف النساء من الليل والحرب أم لا .. ولكنه كان مستيقنا من أنها شجاعة .. وأنها سريعة الخاطر ومتحركة .. وتبين له هذا من كل الأشياء التى اعترضتهما فى الطريق .
     ولم يكن يسير فى طريق يعرفه ولكنه كان بحسه يتجه إلى القنال بعيدا عن طريق الحرب .. وعن جوف الصحراء حتى لايظل فى التيه ..
     سار على هدى بصيرته مستضيئا بالنجوم .. وسارت بجانبه مطمئنة راضية .. ونسى تعبه وجوعه ، ونسى قدميه وقد أخذتا فى التورم .. ولم يكن يدرى الذى جـرى لقدميها ولكن كانت تتحمـل العذاب فى صمت ..
     وأحس بأن له هدفا وسط هـذه المعمعه ، التى لم يشترك فيها بسلاح .. وهو أن يهون عليها السير ، ويحميها من شر الليل ، وشر الإنسان .
***
   وقبل الفجر بساعتين استراحا بجانب تل .. بعيدا عن كل قدم يمكن أن تتحرك .. ووضع لها الحقيبة تحت رأسـها الذى عصبـته "بإيشـارب" وتمددت على الرمال وهو قريب منها ..
    ولما شعر بأنها نامت ، وأحس ببرد الليل ، خلع سترته وغطاها فى رفق حتى لاتوقظها حركته ..
     ولكنها كانت متيقظة ، وشاعرة براحة النفس واطمئنانها ، لأنها لاتزال حية وفى رفقة رجل أدركت بغريزتها كل ما فى طباعه من نبل وشهامة .. وان لم يحدثها أحد عن ذلك ..
     وكانت تلاحظه بعينيها وهو على مبعدة خطوتين منها .. وتخاف عليه من حشرات الصحراء فى الليل ..
نسيت أنها فى حرب .. وما يأتى ساقطا من السماء هو شر من كل حشرات الأرض .. ولاحظت أنه لم يدخن حتى فى النهار وضوء السيجارة لايضير فى هذه الساعة ولا يكون دليلا للأعداء .. حرم نفسه من هذه المتعة لأجلها حتى لايضـايقها برائحة الدخان .. ويثير أعصابها وهى جائعة تعبة ..
    كان قميصة قد اتسخ ، وتهدلت بدلته وعلق بها العرق والغبار .. وطال شعر ذقنه وبدا خشنا وعلا الشحوب وجهه .. واتسعت عيناه من الارهاق والجوع ..
      كانت الصورة فى مجموعها تثير الشجن ولكنها شاقتها .. كانا فى حالة عذاب مشتركة وقد سرح بها خيالها حتى جعلها تتصور .. أنه سار فى هذا الطريق الشاق من أجل أن يحميها .. ولو كان وحده لسهل عليه الأمر .. ونجا ..
     وفتح عينيه وهى تمشط شعرها ، ورأى حبات الرمال فى لون الزمرد عالقة بثوبها .. كأنها تطريز جديد عمل فيه بدقة .. فعجب للطبيعة التى تزيد من جمالها فى كل ما تفعله بها .
     وقالت بعذوبة ..
     ـ ألا تحلق ذقنك ؟
     وضحك لمداعبتها وقال :
     ـ وينقصنا الحمام أيضا .. ومرآة زينة كبيرة لك وكل العطور الجميلة التى فى العالم .. والآن هيا .. مع الجوع والعطش ..
***
    ومشيا بعدطلوع الشمس على مهل ، كانا ينـزعان أقدامهما من الأرض بمشقة .. واشتد بهما الجوع وبلغ العطش مبلغه .. فظهر الشحوب على وجهيهما ، وابيضت الشـفاه وتشـققت .. وترددت الأنفاس بصعوبة .. ولكنهما كانا من الشجاعة بحيث لم يتطرق إلى قلبيهما اليأس ..
      ومشيا أقل من مائة خطوة ، ثم ارتميـا على الأرض كميتين ، وأغلقا عيونهما من الشمس وأخذ هو يتشهد فى سره ..
***
     وتحرك "إسمـاعيل" بعد سـاعة وفتح عينيه وشاهد على مرمى البصر .. وفى وهج الرمال المصفرة من الشمس خيطا من الدخان يتصـاعد من ظهر كوخ .. فنبه "أمينة" إلى ما شاهده وهو يشعر بالفرح .. فقد وجد خيطا من الأمل وسط ظلام اليأس .. والجوع القاتل .. وجعلها تستريح فى مكانها ..
     واتجه هو نحو الكوخ محاذرا منهوكا ، ولما اقترب تصلبت رجلاه ويده على المسدس .. كانت تحدق فيه من فتحة الكوخ عينا رجل .. وجه نحيل خشن وحاجباه كثيفان ، وعيناه فيهما صرامة وتحد ..
     وأظهر إسماعيل كل ضروب الوداعة واللطف .. وهو يقترب من الرجل ويقف على بابه .. ويطلب منه الماء والطعام .. واعتذر الرجل بأن الدار خاوية منذ الأمس ، فلا توجد كسرة خبز ولا قطرة ماء .. عندهم .. ولم ييأس " إسماعيل " وظل يحـاور الرجل ثم أخرج له ورقة بخمسة جنيهات ليغريه ، فتغير حال الرجل على التو .. ودخل وعاد يحمل خبزا ولبنا .. ناولهما لإسماعيل ..
     وحمل إسماعيل الخبز واللبن فى ركوة ومنديل ولكن قبل أن يبعد عن الكوخ سمع المرأة فى داخـل الكوخ تشتم زوجها وتوجعه بالكلام وتوبخه ، لأنه أخذ ثمنا لإطعام جائع غريب .. وظلت تصب عليه اللعنة بصوت جارح .. ثم جذبت الورقة ذات الجنيهات الخمسة منه ، وخرجت تجرى ، وأعادتها لإسماعيل ، وهى تعتذر عن جشع زوجها .. وسرته هذه الشهامة من الاعرابية .. وحكى كل شىء لأمينة وهما يجلسان للطعام .. وكان يردد :
     ـ تأملى الحياة .. الخير .. والشر .. فى بيت واحد ..
     وبعد أن أكلا وشبعا .. لم يستطيعا مواصلة السير إلا قليلا .. جعلهما الشبع بعد الجوع القاتل فى حاجة شديدة إلى النوم .. فناما فى فجوة منخفضة ..    
     واستيقظ إسمـاعيل " وأمينة " نائمة بجواره وتكاد تكون ملاصقة له .. وقد جعله الطعام الذى أجرى الدم فى عروقه وغير من حاله .. ينظر إليها لأول مرة كما ينظر الرجل إلى المرأة .. ويشتهيها ..
      وكانت نائمة مستسلمة ، وما تكشف من جسمها ، رغم ما علق به بسبب الطريق كان لايزال يثيره ولو اقترب منها ما منعته .. ولا رفضت له رغبة .. ولقد لفتهما الحرب فى إعصارها والموت يترصد لهما فى كل خطوة .. فلماذا يحرم نفسه من متعة الدنيا ، وحياته مهددة بالموت فى كل لحظة ..
      وهم بأن يقترب منها ولكنه أحس بمثل الاعصار .. يشق عينيه .. فظل جالسا مدة فى مكانه ساهما سادرا .. ثم رجع إلى نفسه يلومها على ما انتابه من هواجس وأدرك أنها كانت تحتقره لو فعل بها شيئا .. تحتقره كرجل ، لأنه استغل ظروف المكان ، وخان الأمانة التى جعلتها تضع نفسها ومالها وجواهرها فى حماه ..
     ولما استيقظت من نومها .. ابتسم لها وأمسك بها من يدها واتجها إلى القنال .. وفاجأتهما غارة عنيفة وهما على مداخل القناة .. وغاب إسماعيل عن وعيه ..    
     ولما أفاق أحس بأثر الضربة فى صدغه .. ولا يدرى أكانت من شظية أم من الحصى المتطاير من فعل القنبلة .. وسال منه الدم ولكنه تحامل على نفسه ونهض وأخذ يبحث عنها كالمجنون ..
     وبعد طول البحث لم يعثر عليها . وأدركه اليأس ، وبلغ منه التعب منتهاه ، فارتمى على حافة القناة وكأنه يموت ..
***
     ومضت سـاعات وهو مضطجع بجانب التل يتابع بعينيه موج البحر .. وكان شهاب من نار ودخان يتفجر فى الصحراء ..
     وظل " إسماعيل " الليل بطوله يسمع الدوى ، ويرقب البحر ، وهو فى أشد حالات الحزن لفراق " أمينة " وقد نهش قلبه القلق عليها ولفه فى إعصار ..
     ورأى فى مواجهته زورقا يقترب من شط القناة بحذر .. فنهض فى تثاقل وتعب وأخذ يتجه إليه ، ولمحه الصياد وهو يسير على الشاطىء .. فحرك الزورق ليقترب منه ..
     وقال له إسماعيل :
     ـ تعدينى القناة يا ريس ..؟
     ـ أعديك .. ولكن انت شايف الحال ..
     ـ أى حال ..؟
     ـ اليهود فى كل مكان .. فى الشمال والجنوب وطائراتهم تدك .. والتعدية مخاطرة .. وثمنها غال ..
     ـ أنا مستعد لما تطلب ..
     ـ أعتدت أن آخذ مائة جنيه .. ولكن لأجل خاطرك سآخذ خمسين فقط ..
     ـ لماذا تستغل الظروف يا ريس .. عيب .. تكفى عشرة ..
     ـ قلت خمسين يعنى خمسين ..
     ـ هذا كثير ..
     ـ أنت حر ..
     وحرك المجاديف ليبتعد بالزورق ، فارتعد إسماعيل بعـد أن أدرك أنه سيدفن فى فيافى هذا المكان كما دفن غيره ، وقال فى ضراعة ..
     ـ سأدفع لك ما تريد ..
     ـ النقود أولا ..
     فأخرج إسماعيل المبلغ من الحقيبة وأخذ يعد له الخمسـين جنيها والصياد يحدق فى محتويات الحقيبة ..
      ونزل إسماعيل فى الزورق وشد الصياد المجاديف ..              واضطجع إسماعيـل فى باطن الزورق من الخـلف ، وهو يحس بتعب شديد فى عظامه ولحمه .. كانت الأوجاع قد أخذت تتوزع على جسمه كله .. ورأسه ينفجر من أشد أنواع الصداع .. فوضع رأسه على الخشب الصلب ليفلقه نصفين ويستريح .. ! وظل نائما على جنبه وظهره إلى الصياد الذى كان يجدف فى حذر وسكون ، وتكاد مجـاديفه لا تمس الماء ولا يسمع لها صوت ..
      ولامست يد إسماعيل بالمصادفة معدنا صلبا صغير الحجم وهو يدس يده بين فتحات الخشب فى باطن الزورق .. وجعله حب الاستطلاع يمرسه بين أصابعه .. حتى تبين أنه سلسلة ناعمة خارجة من فتحة فى صندوق ، غيبه الصياد فى باطن الزورق .. وحدق إسماعيل فى الظلام بين شقوق الخشب فلـم يتبين نوع السلسلة .. فحول وجهه إلى الصياد وسأله :
     ـ أمعك ثقاب " يا ريس " ..؟
     ـ لماذا ..؟
     ـ أشعل سيجارة ..
     ـ السيجارة تضيعنا .. اننا فى حرب ..
     فأذعن إسماعيل للأمر .. وصرف ذهنه عن السلسلة والصندوق بعد أن أدرك أن الصندوق موجود غالبا فى كثير من الزوارق التى تبقى فى البحر ..
     وسأل وهو يتطلع إلى وجه الصياد الجامد وكان يراه طويلا مستقيم العود .. رغم أنه يزاول التجديف كثيرا ويحنى جذعه ..
     ـ عديت ناس كتير يا ريس ..؟
     ـ كتير .. من يومين وأنا أعدى خلق ..
     ـ وتحت أى بلد نحن الآن الإسماعيلية أم السويس ..
     ـ اننا فى الخليج قريبا من السويس .. ولو كنا تحتها كنا ضعنا من زمان ..
     ـ ألم تعدى سيدات ..؟
     وحدق إسماعيل فى وجه الصياد وهو يلقى عليه هذا السؤال فرآه جامدا لم يتغير ..
     ـ سيدات فى هذه الأهوال .. أبدا ..
     كان صوته هادئا وواضحا ..
     ـ بقى كتير على البر ..
     ـ اننى أحاول أن أبعدك عن المخـاطر .. ولذلك تحس بطول المسافة .. قربنا .. أمامنا القليل ..
     ـ سأنام وعندما نصل أيقظنى ..
     ـ حاضر ..
     ومضى زمن ..
     وأغلق إسماعيل عينيه بضعة دقائق واسترخى .. وأحس بتوقف المجاديف .. فتصور أن الزورق وصل إلى الشاطىء .. وفتح عينيه فإذا بالزورق لايزال فى وسط الماء .. ولمح فى يد الصياد شيئا غريبا .. مسدسا كبيرا من طراز إيطالى قديم .. وكان يعده للحركة الأخيرة .. ضغط الزناد .. وقد انشغل به .. فتأمله إسماعيل فى صمت وتوجس من الرجل شــرا .. مسـدس كهذا فى يده لماذا ؟ .. إنه لا ينفع فى الحرب ..  
     وأحس بالخوف وبالعرق على جبينه وبازدياد ضربات قلبه ..
     ولكنه تمالك نفسه سريعا ووضع يده على مسدسه وأصبعه على الزناد .. وأخرجه من جيبه ، وفى اللحظة التى كان فيها الصـياد يمد يده ويصوب إلى رأس إسماعيل وهو نائم ، تحرك إسماعيل سريعا وأطلق النار .
     وضاعت الطلقتان فى دوى المدافع ووهج النيران ..
***
     وأحس إسماعيل بالدم يلطخ ثيابه ، وأدرك أن الرصاصة أصابت كتفه وخرجت من جسمه واستقرت فى قاع الزورق ..   وحدق فى وجه الصياد وجس نبضه فتبين له أنه مات ..
     وظل يبحث فى بطن الزورق حتى وجد قطعة حديد رفع بها قطعة الخشب التى تغطى الصندوق .. وكسر القفل وفتح الصندوق .. فوجـده ممتلئا بالنقود والحلى ووجد سلسلة " أمينة " الذهبية ومصحفها ، فارتجف قلبه وارتعد ، وكان الزورق ساكنا فى وسط الماء ، فتناول إسمـاعيل المجدافين .. وأخـذ يجـدف طوال اللـيل متجها إلى " بور توفيق " ..
     أدرك وهو ينظر إلى الشواطىء البعيدة أن الصياد كان يغرر به ويتجه إلى الجنوب ..
      ولما بلغ شاطىء " بور توفيق " ترك المجدافين وحمل فى يده حقيبة " أمينة " وكل الجواهر والنقود التى وجدها فى الصندوق ، وخرج من الزورق بعد أن دفعه برجله إلى عرض الماء ..
***
      وعندما صعد إلى شارع القناة ، كان الظلام لا يزال يخيم ، والمدينة ساكنة ، بعد أن توقف الضرب ووجد أمينة جالسة تحـت الشـجر وحدها تنتظره ، وكانت حزينة وجائعة ونعسانة ..
    ولما رأته استردت روحها وجرت إليه وارتمت على صدره ..
 ====================================
 نشرت القصة بمجلة الهلال بالعدد 9 فى 9|9|1972 واعيد نشرها فى كتاب " الظرف المغلق " سنة 1980 وفى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
============================================






الغجرى

    
    
  فى سنة 1934 ركبت البحر إلى أوربا .. وكان فى السفينة أجناس مختلفة من البشر .. تلاقوا فى صفاء ومودة .. فلم تكن هناك حروب ..
      وكان الناس قد نسوا ويلات حرب 1914 لطول ما مر عليها من زمن .. ولم تكن السفينة مزدحمة بالركاب .. رغم أننا أقلعنا فى فصل الصيف .. وهو الفصل الذى يهرع فيه الناس إلى أوربا ..
      وكان الكساد والرخص يعمان العالم كله .. وكل إنسان فى جيبه القليل من الجنيهات يستطيع أن يسافر كما سافرت .. ورغم ذلك الرخص فإن السفينة لم تكن مكتظه .. وهذا ما جعل المسافر على ظهرها يشعر بالراحة والمتعة .. فالزحام لايريح أحدا ..
     ولكن فى مدينة " بيريه " فوجئنا بفوج من السياح ينـزل إلى السفينة قبل ساعة الاقلاع .. وكان معظم أفراده من المصريين فى طريقهم إلى الدانوب ، جمعتهم شركة سياحية على هذا النحو .. وبعد أن قضوا أياما فى اليونان ركبوا هذه السفينة .
     ولم أكن بطبعى أحب هذه الأفواج ، ولا أسافر فى ركبها .. ولكنهم ركبوا السفينة ، ولم يركبوا القطار فكيف ابتعد عنهم ..
     واستلفت نظرى شاب على رأس الفوج .. ضخم الجسم قمحى اللون .. حاد النظرات .. يعنى بهندامه .. وينادونه بالأستاذ " شكرى "    
     وكان " شكرى " هذا يحمل آلة تصوير ، ولا يفتأ يصور ويصور .. ومن وقفته الطويلة حول جموع الركاب لاحظت أنه كثير الفضول ومتسلط .. وكانت زوجته مصرية وسمعت اسمها " الهام " .. وكانت شابة نحيفة القوام بيضاء جميلة .. بل آية من آيات الجمال .. وتبدو وادعة وحزينة .. وكنت أغفر له فضوله .. ما دامت تقف بجواره ، وتحاول أن تخفف برقتها من وقع كلماته الغليظة وتسلطه .
     وكان يرافقهما كأصحاب ، زوجان أجنبيان ، لاعلاقة لهما بالفوج ولكنهما التقيا بشكرى وزوجه فى ربوع اليونان فتصاحبا .. كرفقة سفر .. وهما من فنلندا والزوج والزوجة حسن ونادية .. الاثنان يدرسان فى جامعة واحدة بفنلندا .
     وعندما دخلت السفينة حدود تركيا .. تعرفت على الشاب الفنلندى " حسن " وسرنى أنه يعشق الأدب وله اطلاع واسع .. وكان هو وزوجه فى نفس الطابق من السفينة الذى يقيم فيه شكرى والهام .. وفى كمرتين متجاورتين ..
     وقد نشأت علاقة قوية بين الزوجة المصرية والزوجة الفنلندية .. حتى اننى كنت أشاهدهما معا ، فى كل خطوة أخطوها على ظهر السفينة ، أو فى ممراتها الداخلية والجانبية .. وقد عللت ذلك لجمال المصرية ورقتها .. واتقانها اللغة الفرنسية .. وأن السيدة الفنلندية لم تقع فى الفوج كله على من هو أنضر منها وجها .. وأطيب عشرة .. وعلى من يحدثها عن مصر والشرق بوضوح .. وفى ثقافة واسعة مثل هذه الزوجة .
     وفى صباح مبكر ، وقبل الافطار وجدتهما متجاورين ، وتستندان الى الحاجز ، وعيونهما الى البحر ..
     ولاحظت بعد النظرة المتأنية .. أن السيدة المصرية تكفكف عبراتها .. والفنلندية تخفف عنها الأمر ، بوضع ذراعها كله على كتفها ، كأنها تود احتضانها ..
     وتكرر مشهد الدموع فى عين " الهام " ولأن وجهها فى جملته يعبر عن الحزن ، فقد رددت ذلك إلى كونها فقدت عزيزا عليها منذ زمن قصير .. ولهذا خرج بها زوجها الى هذه الرحلة لتنسى .
     وقد جعلتنى الدموع التى كنت أراها فى عينيها كل صباح ، أشفق عليها ، وأحاول أن اقترب من زوجها " شكرى " لأعرف حقيقتها .. ولكنه كان فى طباعه منفرا ولايشجع أحدا على الاقتراب .
     وكان يعنى بهندامه وزينته مع أننا فى سفينة ، والأمر لايحتاج لكل هذا التبختر .. ويلوك الكلمات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية .. بمناسبة وغير مناسبة ، كأنه مرشد سياحة .
                                   ***    
     وكان البحر هادىء الموج والريح طيبة فخرج الركاب من الكباين إلى الشرفات والظهر ، وجلسوا على الكراسى الطويلة والدكك .. وعلى لفات الحبال ، وناموا على أطواق النجاة التى تستعمل فى حالة الطوارىء .
     ولم يفكر أحد فى العاصفة ولا فى مخـاطر البحر .. وكان الأستاذ " شكرى " يقف وسط حلقات المسافرين متحدثا ، وراسما الخطط للرحلة ، وحوله بعض من يعرفهم من اليهود المصريين والأجانب .. وكان يتردد على محلاتهم فى قلب العاصمة ، ويعرفهم بأسمائهم .. وكانوا يسألونه عن الدردنيل والبسفور وجامع أيا صوفيا ويمازحونه ، وهم يعرفون طباعه من مغالاته فى الوصف ، وكان الجو كله يخيم عليه الحب ، لأن العداء الذى سببته الحروب لم يكن فى قلب مخلوق يسعى لخير البشرية جمعاء .
     وكان علينا أن نمضى يومين آخرين فى البحر ، لنصل إلى استانبول .. التى سنمكث فيها ثلاثة أيام متصلة .. لتفرغ السفينة بعض شحناتها التى كانت فى الباطن وتمتلىء بغيرها .. وبعدها نقلع إلى البحر الأسود .. إلى كونستنـزا وهى نهاية خط السفينة .
     وكان يطيب لنا أنا والشاب الفنلندى " حسن " أن نستمتع بمنظر الغروب فى البحر ، وكانت زوجته مشغولة بصديقتها المصرية " الهام " وتقضى معها معظم الوقت .
     وفى جلسة فى مقدمة السفينة سألنى " حسن " .
     ـ هل تعرف السيدة الهام ..؟
     ـ أبدا .. والتقيت بها لأول مرة معكما ..
     ـ ولازوجها شكرى ..؟
     ـ ولا زوجها شكرى ..
     ـ لماذا تبدو حزينة وفى عينيها الدموع ..
     ـ سألت نفسى هذا السؤال .. ولم أهتد إلى جواب ..
     ـ حاولت أن أعرف السبب من زوجتى الملازمة لها فلم أعرف .. يبدو لى أنه يضربها لأنه لايملك أعصابه حتى وهو يتحدث مع الغرباء ..
     ـ أبدا لاتفكر فى هذا .. وما أظنه يحدث .. هل تشعر نحوها بالعطف ..؟
     ـ قطعا .. وإذا كان لايحبها فلماذا لايسرحها بالمعروف .. ونحـن مسلمون ..؟ والطلاق ليس صعبا .. وهما ليسا صغارا ..
     ـ لو كان السبب الكراهية لطلبت هى الطلاق ..
     ـ لا أظن هذا .. فهى مسكينة لاحول لها ولاطول ..
     وشعرت بعد هذا الحديث بالأسف والخجل .. وأخذت أحد النظر فى " شكرى " كلما التقيت به ، لأجد فى سحنته العلة التى تجعله هكذا شاذا متسلطا لايسمع زوجته كلمة حب ، ولا ينظر اليها نظرة عطف .. ولكننى لم استطع الاهتداء إلى شىء ملموس .
                              ***  
     ولما بلغنا مدينة " استانبول " شعرنا جميعا بفرحة غامرة ، فقد كان الجمال المحيط بنا فوق مستوى خيالنا .. ودخلنا نحن الخمسة مسجد أيا صوفيا متفرقين ..
     ورأيت السيدة الهام فى ركن المسجد ، تطيل السجود ، وفى عينيها الدموع .. ولم أر أجمل من عينيها فى هذه الساعة .
                      ***   
     وخرجت من المسجد وحدى .. وقضيت فى " استانبول " الأيام الثلاثة منفردا لأنى اخترت ذلك ، لأقطع المدينة طولا وعرضا وأرى فيها كل موضع جمال .
     وعدت إلى السفينة فى عصر اليوم الثالث قبل السفر بساعة ..
     وتحركت السفينة .. وتجمع الركاب على الظهر ، وفى كل الجـوانب ، ليشاهدوا البسفور عن قرب .
     وسمعت المثل ..
    ـ من لم ير البسفور لايرى الجنة ..
    ـ هذا ظلم للفقراء ..والناس عند خالقهم سواسية .. فمن أين لهم المال للسفر ..
    ـ إذن من يرى البسفور كأنه رأى الجنة ..
    ـ هذا أحسن ..
    وابتسمت ، وأنا أسمع هذا الحوار حولى ..
                        ***   
     ودخلنا البحر الأسود .. وفى صباح يوم مبكر .. رست السفينة على ميناء كونستنزا ..
     واتفقنا نحن الخمسة على أن نقضى اسبوعا فى مصيف جميل قريب من كونستنزا اشتهر ركن فيه طينى بعلاج الكثير من الأمراض .
     ووصلنا مصيف كارمن سيلفا بعد الغداء .. واخترنا نزلا صغيرا أشبه بالبيت .. فنـزلنا فيه .. وأخذنا نتجول ، واعترضنا الكثير من الغجر ، يعرضون ملابسهم المزركشة المنسوجة باليد ..
     وفى الصباح التالى انفرد شاب من هؤلاء الغجر " بالهام " واغراها بشراء ثوب جميل النسج فابتاعته منه ..
     ولما رآه زوجها شكرى سألها عن ثمنه ، وخرج إلى الغجرى مسرعا ليرد له الثوب ويسترد النقود .. وحدثت مشادة بينه وبين الغجرى ، وقال له هذا أنه باع الثوب للسيدة وليس له .. وإن كانت هذه الليات (اللي عملة رومانى ) القليلة تعضله فانه يقدم الثوب للسيدة هدية .. واستشاط شكرى غضبا وصفع الغجرى .. وتحمل الغجرى الصفعة ولم ينبس ومشى وعيناه تقدح نارا .
     وسمعنا بالخبر ولمنا " شكرى " على تصرفه هذا وحماقته ، وكانت زوجته مرتاعة .. وخشينا على أنفسنا من تجمع الغجر علينا ونحن غرباء فى مصيف صغير .. وقررنا ألا نتجول فى هذه الليلة .
                      ***   
     وفى الصباح التالى كنا قد نسينا ما حدث واتجهنا إلى البلاج .. وهو مقسم قسمين .. قسم للنساء على اليمين .. وقسم للرجال على الشمال .. وبينهما حاجز طويل وذلك لأن النساء يسبحن عرايا ..
     ونزلنا نحن الخمسة فى الماء .. كل فى قسمه .. وكان الرجال منا يجيدون السباحة .. وكان شكرى أمهرنا فأبعد .. وسبحت وراءه ، ولكنى لم أكن فى مثل براعته ، واختلطنا بغيرنا من المصيفين .. ولمحت الغجرى يسبح وحده ، حتى جـــاوز الحاجز الذى بين الرجال والنساء .. وغاص فى الماء ..
                       ***   
     وخرجنا نحن الأربعة من الماء فى ساعة الظهر .. ولم يخرج " شكرى " وانتظرناه على الشاطىء ، وكان الغجرى يتجول بيننا حاملا بضاعته على ذراعه .. ولم يبد على سحنته أنه نزل الماء قط .. حتى أننى شككت فيمن أبصرته مثله وأنا أسبح ..
     وبعد ساعة أبلغنا رجال الانقاذ بغياب شكرى .. وبحثوا فى الماء فى طول وعرض الشاطىء .. ولما دخل الليل سلطوا الكشافات ولم يهتدوا إلى شىء ..
                              ***   
     وانتظرنا فى المدينة ثلاثة أيام لتطفو جثته .. إن كان قد غرق .. ولكن خاب فألنا فلم نعثر له على أثر فى الأرض ولا فى الماء .
     وكانت زوجته المسكينة فى حالة اغماء وقىء وتكرر منها ذلك .. فطلبت " نادية " أن نستدعى طبيبا لفحصها ، خشية أن تكون حاملا ويضر حزنها الجنين ..
     وجاء الطبيب ورافقته " نادية " عند الفحص ..
     ولما خرج الطبيب .. سألتها ..
     ـ هل تم الفحص ..؟
     ـ أجل ..
     ـ ووجدها حاملا ..؟
     ـ وجدها عذراء ..!
     ولم أنبس .. وأخذت أبحث فى الجدول عن أول قطار مسافر إلى بوخارست ..
  ================================   
نشرت القصة فى مجلة الثقافة عدد يونيو 1979 وأعيد نشرها فى كتاب " الظرف المغلق " سنة 1980

















فهرس


اسم القصة
رقم الصفحة
الظرف المغلق

الشجاع

الحارس

بائع العطور

الورقة المطوية

السن الذهبية

طلقة فى الظلام

الغجرى